سیرة الشیخ : الهجرة إلى النجف الأشرف

وفي يوم من الأيام، كما حكى الاُستاذ(ره) قال: كنتُ جالساً في ساحة المدرسة اُفكر في كيفية الذهاب إلى النجف، وإذا برجل أقبل نحوي وقد بان عليه أنه من التجار، وكان يأتي في السابق إلى المدرسة حُباً منه لأهل العلم، والظاهر أنه كان يتابع نشاطي العلمي ويسأل عني من دون وجود علاقة بيننا.
جاء هذا الرجل وسلّم، وقال: ما لك متفكراً؟ قال هذا وجلس إلى جنبي، فقلتُ له: اُفكر في الذهاب إلى النجف، فقال: وما يمنعك من الذهاب؟ فأجبتُه: يمنعني أن السفر ممنوع، وخصوصاً للشباب، وكان ذلك إبّان رجوع الشاه بعد سقوط حكومة مصدق، فقال الرجل: لا عليك، أعطني صوَرَك وبعض المعلومات واترك الأمر لي، فعجب الشيخ من ذلك، لكن الله إذا أراد شيئاً هيأ أسبابه، فأعطاه ما يحتاجه وذهب الرجل، فما مضى يوم واحد حتى عاد ومعه جواز سفر إيراني رسمي قد هيأه عن طريق بعض أصدقائه وعلاقاته، ولعله دفع مالاً لأجل ذلك. وقال له: هذا جوازك، فهيئ نفسك غداً للسفر إلى العراق.
وفي الصباح جاء إليه وذهبا معاً إلى مكانٍ قريب من مدرسة (الحُجتية) اليوم، وكانت تعتبر آخر منطقة في قم آنذاك، وقريب منها يوجد موقف للسيارات التي تذهب إلى العراق، فاستأجر له كرسياً في سيارة صغيرة مع ثلاثة أشخاص، وأعطاه متاعاً للسفر وودّعَه، فشكر له الشيخ جميله هذا ودعا له كثيراً.
وتحركت سيارتهم، فلما وصلتْ إلى ما قبل الحدود جاءهم سيل اضطرهم إلى المكث يومين، وبعدها واصلوا المسير إلى بغداد. وتوقفت السيارة بهم في الكاظمية، فذهب الشيخ إلى زيارة الكاظمين‘، وبعد فترةٍ توجّه إلى كربلاء وتشرّف بزيارة سيد الشهداء×، ثم توجه صوب النجف الأشرف حيثُ الأمل، والشوق الشديد للحوزة العلمية فيها.
وبعد الوصول، توجه فوراً إلى زيارة أمير المؤمنين×، ثم نزل ضيفاً على صديقه المرحوم الشهيد آية الله الشيخ ميرزا علي الغروي التبريزي (قدس الله نفسه الطاهرة، ولعن قاتليه)، الذي كان قد سبقه بثلاث سنين في الهجرة إلى النجف، فنزل عليه ضيفاً في غرفته بمدرسة (الخليلي)، ثم تهيأت له غرفة في مدرسة (القوام) الواقعة خلف مسجد (الطوسي)، وكانت هجرته من قم إلى النجف في حدود سنة ۱۳۷۱هـ . ق.
يقول الاُستاذ+: إنه وبعد وصوله ذهب إلى درس السيد الخوئي&، وكان السيد يلقي بحثاً في الاُصول بعد صلاة المغرب والعشاء في مسجده الذي يقيم فيه صلاة الجماعة، والمعروف بمسجد (الخضراء)، وكان البحث في تلك الجلسة حول: أنه هل يجب الفحص في الشبهات الموضوعية أم لا؟ وقد اختار السيد ما هو المعروف من عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية.
إلا أن السيد تمسّك لعدم وجوب الفحص ـ إضافةً لأدلّة اُخرى ـ بصحيحة زرارة، والمعروفة بمضمرة زرارة في الاستصحاب، والتي لا يضرّها الإضمار؛ لما ذكر الاُستاذ من أنه يُفهم من خلال تفريعاتها ومتنها وتدقيق زرارة في السؤال واهتمامه به وكذلك دقة الأجوبة أن المخاطب بقوله (قلت له) هو الإمام، والظاهر أنه الباقر×، يقول: قلت له: «أصاب ثوبي دَمٌ رُعاف.. إلى أن يقول: قلت: فهل عليَّ إن شككت أنه أصابه شيء أن أنظر فيه ؟ قال: لا» الحديث.
فالسيد& استدل بهذه الرواية على عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية، وبالفقرة الأخيرة «قوله: علي أن أنظر فيه ؟ قال: لا».
وفي اليوم التالي ذهب الاُستاذ إلى بيت السيد الخوئي& ودخل عليه، يقول: فوجدتُّه جالساً ومعه أحد السادة من أهل العلم العرب، فسلمت وجلست، وقلت له: سيدنا إن ما تفضلتم به البارحة من أنه لا يجب الفحص في الشبهات الموضوعية صحيح، ولكن استدلالكم بصحيحة زرارة غير تام؛ وذلك لأن النجاسة في الثوب على فرض ثبوتها مانع علمي لا واقعي، فمتى علم بنجاسته لا يجوز الصلاة فيه مثلاً، ولذا أجاب الإمام زرارة عند سؤاله عن الفحص في الثوب (هل يجب؟ قال: لا)، إذ لا يجب تحصيل العلم المحقق للمانعية، وكلامنا ـ والحديث للاُستاذ+ ـ إنما هو في الشبهات الموضوعية الواقعية، عُلمت أم لم تعلم، وأنه هل يجب الفحص فيها أم لا؟ يقول: فلما سمع مني السيد ذلك قَبِل، وقال لي: أحسنت، الحق معك.
يقول الاُستاذ+: وحيث كان حديثي ومناقشتي له إما باللغة التركية أو الفارسية، رأيت أن السيد الجالس معه متحير يريد فهم المناقشة، بعد أن رأى السيد الخوئي& قد قبل ما قُلتُه له، فسأله السيد ماذا يقول هذا الشيخ، فترجم له المناقشة، فقبل هو أيضاً، ثم بعد مدة عرفت أن هذا السيد الذي كان جالساً اسمه السيد محمد باقر الصدر&.
ويتابع الاُستاذ نقل ما حصل بعد ذلك.
وفي اليوم الآخر حيث كان السيد الخوئي& جالساً بالمسجد متكئاً على المنبر ووجهه قبالة الباب ينتظر ساعة ابتداء الدرس ليشرع وكان إلى جنبه الشيخ محمد علي التوحيدي التبريزي& صاحب (مصباح الفقاهة)، دخل الاُستاذ (دام ظله) ورآه السيد الخوئي& ومن ثم شرع في درسه، وبعد انتهاء الدرس جاءه التوحيدي وقال له: إنه وحين دخولك المسجد سألني عنك السيد الخوئي& فقلت له: إنه من أهل تبريز، كان يدرس في قم وجاء تواً إلى النجف. يقول التوحيدي: إن السيد الخوئي& قال عندها: سيكون لهذا الرجل شأن ومستقبل زاهر.
وهكذا حتى مضى له في النجف سبعة أشهر أو ثمانية. وفي ذات يوم في عصر الجمعة كان ذاهباً إلى مقبرة (وادي السلام)، فلم يشعر إلا وسيارةً تمر من أمامه مسرعة فذهبت مسافة ورجعت إليه، وفُتح بابها وخرج منها شخص وأقبل نحو الشيخ فنظر إليه وإذا هو رفيقه الذي ساعده في السفر إلى النجف وهيأ له الجواز، ففرح بلقائه وجاء به إلى غرفته وكان قد جاء إلى الزيارة. وبعد فترة استراحته، قال له التاجر: إنه آن الأوان أن تتزوج وتستقر، وفعلاً تم الزواج من امرأة صالحة بتبرع هذا التاجر بمصاريف الزواج، واستقر الاُستاذ في دارٍ استأجرها مع زوجته التي هي مصداق للمقالة المعروفة: «وراء كل عظيم امرأة عظيمة»، وكانت ثمرة هذا الزواج المبارك ثلاثة ذكور وخمسة بنات.
شرع الفقيه المقدس الميرزا التبريزي+ منذ استقراره في النجف الأشرف بتدريس مرحلة السطح، فكان محل اهتمام آية الله السيد الخوئي+ منذ ذلك الوقت.
يقول المرحوم الميرزا+: كنت قادماً من الدرس يوماً ما، وقد رآني السيد الخوئي&، وقال لي: يا ميرزا أسألك سؤالاً وأجبني عنه غداً، فقلت له: تفضلوا بسؤالكم (طبيعياً كان سؤال السيد الخوئي& من أجل دعوته للميرزا للانضمام إلى لجنة الاستفتاء ولاختباره). كانت مسألة السيد الخوئي& عن الفرق بين شركة الورثة مع مقدار الدين الباقي على ملك الميت في التركة وشركتهم مع وصية الميت بثلث أمواله؟ فقال المرحوم الميرزا+: ليس من اللازم الجواب غداً، فالجواب حاضر الآن، وفرقهما هو إن الأول هو من باب الكلي في المعين أما الثاني فهو من باب الإشاعة.
وبسماع هذا الجواب شجع السيد الخوئي& الميرزا جواد+ بشدة، فكان حضور ذهن الميرزا+ حاكياً عن تسلطه واطلاعه العلمي.