الإمام المرتضى عليّ بن أبي طالب عليه السلام

هو أمير المؤمنين وسيّد الوصيّين وأوّل خلفاء الرسول صلى الله عليه وآله المهديّين – بأمر من الله ونصّ من رسوله صلى الله عليه وآله وقد صرّح القرآن بعصمته وتطهيره من كلّ رجس، وباهل به وبزوجته وولديه رسول الله صلى الله عليه وآله نصارى نجران، واعتبره من القربى الذين وجبت مودّتهم مصرّحاً غير مرّة بأنّها عِدل الكتاب المجيد الموجبين للمتمسّك بهما النجاة وللمتخلّف عنهما الردى.

نشأ الإمام في حجر رسول الله صلى الله عليه وآله منذ نعومة أظفاره، وتغذّى من معين هديه، فكان المتعلّم الوفيّ والأخ الزكيّ، وأوّل من آمن وصلّى وأصدق من تفانى في سبيل ربّه وضحّى في سبيل إنجاح رسالته في أحرج لحظات صراعها مع الجاهلية العاتية في كلّ صورها في العهدين المكّي والمدني وفي حياة الرسول وبعد رحيله ذائباً في مبدئه ورسالته وجميع قيمه مجسّداً للحقّ بكلّ شُعَبِه من دون أن يتخطّاها قيد أنملة أو ينحرف عنها قيد شعرة.

– لقد وصفه ضرار بن ضمرة الكناني لمعاوية بن أبي سفيان حتى أبكاه وأبكى القوم وجعله يترحّم عليه، بقوله: “كان والله بعيد المدى شديد القوى، يقول فصلاً ويحكم عدلاً، يتفجّر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، ويستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل ووحشته، وكان غزير العبرة طويل الفكرة، يقلّب كفّه ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما قصر ومن الطعام ما جشب، وكان فينا كأحدنا، يدنينا إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه ويأتينا إذا دعوناه، وينبّئنا إذا استنبأناه، ونحن والله مع تقريبه إيّانا وقربه منّا لا نكاد نكلّمه هيبةً له، فإن ابتسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يعظّم أهل الدين ويقرّب المساكين، لا يطمع القويّ في باطله ولا ييأس الضعيف من عدله.

لقد آزر الإمام عليه السلام رسول الله منذ بداية الدعوة، وجاهد معه جهاداً لا مثيل له في تأريخ الدعوة المباركة حتى تفرّى الليل عن صُبحه وأسفر الحقّ عن محضه ونطق زعيم الدين وخرست شقاشق الشياطين بعد أن مُني بذؤبان العرب ومردة أهل الكتاب.

وبعد أن خطا الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله لتغيير المجتمع الجاهلي خطواته المدهشة في تلك الفترة القصيرة كان الطريق أمام الاسلام لبلوغ أهدافه الكبرى شاقاً وطويلاً يتطلّب التخطيط الكامل والقيادة الواعية التي لا تقلّ عن شخصية الرسول القائد إيماناً وكمالاً وإخلاصاً ودرايةً وحنكةً، وكان من الطبيعي للرسالة الخاتمة أن تخطّط لمستقبل هذه الدعوة التي تعتبر عصارة دعوات الأنبياء جميعاً ووريثة جهودهم وجهادهم المتواصل عبر التأريخ.. وهكذا كان إذ اختار النبيّ الخاتم صلى الله عليه وآله بأمر من الله سبحانه شخصاً رشّحه عمق وجوده في كيان الدعوة حتى تفانى في أهدافها وخلص من جميع شوائب الجاهلية ورواسبها وتحلّى بأعلى درجات الكفاءة وعياً وإيماناً وإخلاصاً وتضحيةً في سبيل الله.

لقد كان عليّ بن أبي طالب عليه السلام هو ذلك البديل الذي أعدّه رسول الله صلى الله عليه وآله إعداداً رسالياً خاصّاً ليحمّله المرجعية الفكرية والسياسية من بعده، كي يواصل عملية التغيير الطويلة الرائدة بمساندة القاعدة الواعية التي أعدّها الرسول صلى الله عليه وآله له من المهاجرين والأنصار.

– ولكنّ الجاهلية المتجذّرة في أعماق ذلك المجتمع ما كانت لتندحر في بدر وحُنين وخلال عقد واحد من الصراع والكفاح، وكان من الطبيعي أن تظهر من جديد متستِّرة بشعار إسلامي كي تستطيع أن تظهر على المسرح الاجتماعي من جديد ولو بعد عقود من الزمن، وكان من الطبيعي أيضاً أن تتسلّل الى المواقع القيادية بشكل مباشر أو غير مباشر.. ومن هنا كانت الردّة الى المفاهيم والعادات الجاهلية – من خلال الالتفاف على القيادة الشرعية للمجتمع الإسلامي الفتي الذي كانت تحدق به الأخطار من كلّ جانب، ولم تكتمل قواعده وعياً ونضجاً – أمراً محتملاً بل متوقّعاً لكلّ قياديّ يمتلك أدنى وعي سياسيّ واجتماعيّ، فكيف برسول الله وخاتم أنبيائه صلى الله عليه وآله ؟

– وإذا كانت الرسالة الإسلامية تهدف الى تغيير الواقع الاجتماعي الجاهلي، فلابدّ أن تلاحظ هذا الواقع بكل ملابساته ورسوباته، وتخطّط للتغيير الشامل على المدى القريب والبعيد معاً… وهكذا كان، فقد رسمت الرسالة الخط الطبيعي الذي يفرضه المنطق التشريعي للمسيرة الإسلامية الرائدة، حيث تجلّى ذلك في إرجاع الأُمّة فكرياً وسياسياً الى الأئمّة المعصومين من كلّ رجس جاهلي، بعد أن نصب النبيّ عليّاً في غدير خم أميراً للمؤمنين، وأحكم له الأمر بأخذ البيعة له من عامّة المسلمين.

– لقد اصطدم التخطيط الرائد بواقع كان متوقّعاً للنبيّ صلى الله عليه وآله وبتيّار جارف يعود الى نقصان الوعي عند الاُمّة التي تشكّل القاعدة الأمينة لحماية القيادة الرشيدة، بحيث لم يكن يدرك عامّة المسلمين بعمق أنّ الجاهلية تتآمر وراء الستار عليهم وعلى الثورة الإسلامية الفتيّة، وأنّ القضية ليست قضية تغيير شخص القائد بقائد آخر، وإنّما القضية قضية تغيير خط الإسلام المحمدي الثوري بخط جاهلي متستّر بالإسلام.

– وهكذا أجهضت السقيفةُ التخطيطَ الرائدَ للنبيّ القائد صلى الله عليه وآله حينما وجدت أنّ الساحة قد خلت منه، وتحقّقت نبوءة القرآن العظيم حين قال: (وما محمّد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم).

لقد كان النبيّ جعل عليّاً أميناً على رسالته واُمّته ودولته، وكلّفه بحفظ الرسالة والشريعة كما كلّفه بتربية الاُمّة الفتيّة وصيانة الدولة التي لم تترسخ جذورها بعد.

وحاول الإمام عليّ عليه السلام إرجاع الاُمور الى مجاريها بإدانة السقيفة ونتائجها وبالامتناع من البيعة والتصدّي للمؤامرة، ولكن دون جدوى، بل كان الأمر قد دار بين انهيار الدولة سياسياً ودولياً وبين حفظها مع تصدّي غير الأكفّاء للقيادة.

– لقد وقف الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام موقفاً مبدئياً سجّله له التأريخ حيث قال: “فأمسكت يديّ حيث رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون الى محق دين محمد صلى الله عليه وآله فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله; أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم التي إنّما هي متاع أيّام قلائل يزول منها ما كان كما يزول السراب أو كما يتقشّع السحاب”.

– وتلخّصت مواقف هذا الإمام العظيم خلال خمسة وعشرين عاماً من المحنة وهو يلعق الصبر الأمرّ من العلقم – على حدّ تعبيره عليه السلام في الحفاظ على وحدة الاُمّة الإسلامية وعدم تصدّع الدولة النبويّة الفتيّة ولو بالتنازل عن حقّه الشرعي مؤقّتاً، وتقديم المشورة للخلفاء وإسداء النصح لهم، مع التوجّه الى جمع القرآن وتفسيره، وتثقيف الاُمّة على مفاهيمه وتوعيتها على حقائقه، وكشف النقاب عن حقيقة المؤامرة التي دانت لها طوائف من المسلمين، والتصدّي لأخطاء الحكّام في الفهم والتطبيق لأحكام الشريعة الإسلامية، وإيجاد كتلة صالحة تؤمن بالتخطيط النبويّ الرائد للقيادة الإسلامية، وتسهر على نشره وتبليغه، وتضحّي من أجل تطبيقه وتنفيذه.

واستطاع الإمام بعد عقدين ونصف من الصبر والكدح أن يقتطف ثمار سعيه، وبعد أن تكشّفت حقائق كانت وراء الستار وتجلّى للاُمّة بجيليها الطليعي والتابع أنّ عليّاً عليه السلام هو الجدير بالخلافة دون غيره، وأنّه هو الذي يستطيع إصلاح ما فسد بالرغم من تعقّد الظروف وتبلبل القلوب واشتداد زاوية الانحراف عن نهج الحقّ القويم، حتى قال عليه السلام: “والله ما كانت لي في الخلافة رغبة ولا في الولاية إربة، ولكنّكم دعوتموني اليها وحملتموني عليها”.

وأعلن الإمام عن سياسته قائلاً: “واعلموا أنّي إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، ولم أصغ الى قول القائل وعتب العاتب”. وقال أيضاً: “اللّهمّ إنّك تعلم أنّه لم يكن الذي كان منّا منافسة في سلطان ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنردّ المعالم من دينك ونظهر الاصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطّلة من حدودك”.

وأجهد الإمام عليه السلام نفسه على أن يحقّق بين الناس العدل الاجتماعي والسياسي وفي طريق لا التواء فيه، وأن يسود الأمن والحرية والرخاء والاستقرار مع الاحتفاظ بوحدة الاُمّة مع السعي في تربيتها وتعليمها وإعطائها كامل حقوقها، وعزل الجهاز الإدراي الفاسد واستبداله بالولاة والعمّال الصالحين أو المعروفين بالصلاح ومراقبتهم أشدّ المراقبة، حيث أقصى عن دائرة المسؤولية كل الانتهازييّن والطامعين، والتزم الصراحة والحقّ والصدق في كلّ مجال، فلم يخادع ولم يوارب، فسار عليه السلام على منهاج أخيه وابن عمّه رسول الله صلى الله عليه وآله.

وبدأت تتحرّك كلّ القوى الطامعة والانتهازية التي خسرت مواقعها السياسية والاجتماعية والاقتصادية ضدّ الإمام، وأخذت تتكاتف كلّ القوى التي دعت لمقاتلة عثمان والتحريض عليه يوم أمس، رافعة شعار المطالبة بدم عثمان مندّدة بسياسة الإمام الحكيمة والنزيهة، فنكثت طائفة وقسطت اُخرى ومرقت ثالثة، وإذا بالإمام بعد كفاح مرير يقع شهيداً مخضّباً بدمائه الطاهرة في محراب عبادته وفي مسجد الكوفة وفي ليلة القدر من عام (۴۰) من الهجرة النبوية، إنّه الفوز بالشهادة والفوز بالثبات على القيم الرسالية الفريدة والثبات على الحقّ اللاحب والجهاد في سبيل إرساء قواعد الدين، إنّها ثورة القيم الإلهية على القيم الجاهلية بكل شُعبها وفروعها.

فسلام عليك يا أمير المؤمنين وقائد الغر المحجّلين يوم ولدت ويوم رُبّيت في حجر الرسالة، ويوم جاهدت من أجل أن تعلو راية الإسلام خفّاقة، ويوم صبرت ونصحت، ويوم بويعت وحكمت، ويوم كشفت النقاب عن براثن الجاهلية المتستّرة بشعار الإسلام، ويوم استشهدت وأنت تروّي بدمك الطاهر شجرة الإسلام الباسقة، ويوم تبعث حيّاً وأنت تحمل وسام الفوز في أعلى علّيّين.