حقيقة سكينة بنت الحسين عليهما السلام
لم يختلف حال سليلة البيت العلوي السيد الطاهرة سكينة بنت الإمام الحسين عليه السلام عن بقية أفراد هذه الأسرة المباركة، فكما وجهت التهم لجدها الأكبر أبي طالب عليه السلام فأدعي عليه أنه مات كافراً، وقيل في شأن جدها أمير المؤمنين عليه السلام ما قيل، وقد كان يلعن على المنابر، وصودرت دعوة الحق في نهضة أبيها المباركة، ووسمها بعض معاصريه من المرتزقة ووعاظ السلاطين بحركة خارجي خرج على سلطان زمانه، وأمام أمره، فحق أن يقتل بسيف جده. واستمرت تلك التهمة الموجهة على فترة الاستشهاد الأولى، لتطاول الزمن، فتتكرر اليوم، ونسمع بعض الناعقين ينادي بمثل هذه الأمور. فجرى عليها عليها السلام ما جرى على من تقدمها من سلفها الطاهر، فلم يقتصر التأريخ في ظلامته لها على إخفاء سيرتها العطرة، وإغماض ذكرها، فلم ينقل لنا عنها شيئاً يذكر، حتى لفق لها تهماً وأباطيل كاذبة، أقرب منها إلى الخيال عن التصديق والواقع، فبينما يحدث بعض المؤرخين عن زيجات يقشعر لها البدن، ويندى لها الجبين نجد من يسلب عنها سمتها الهاشمية، ووقارها العلوي، وعفافها الفاطمي، ليجعلها جليسة الشعراء، ومنادمة لهم، تستمع للغلو، وتقارع اللهو، وتحيي الليالي الحمراء.
وكأن هؤلاء وقد كتبوا ما كتبوا يظنون أن بيان عظمتها لا يكون إلا إذا عرضت بصورة منحلة بعيدة عن كل عفة وشرف، مخدوشة الحياء.
ومن الطبيعي أن هذا يستوجب الوقوف عند هذه التهم، والسعي الحثيث إلى رفعها والقيام بتصحيح المسار قدر المستطاع، لكي يحفظ للأجيال ما يمكن أن ينير الدرب، ويسوي الأمر فربما تحقق في يوم ما يحقق التصحيح والتقويم إن شاء الله. وعليه، سوف يكون الحديث ضمن محاور ثلاثة:
الأول: عرض لمحة موجزة عن سيرتها المباركة، وحياتها الطاهرة.
الثاني: زواجها عليها السلام.
الثالث: النظر في مسألة لقائها بالشعراء ومنادمتها لهم، ومدى صحة ما قيل.
سيرتها الذاتية ومكانتها وفضلها:
إن الحديث عن شخصية جليلة كشخصية السيدة سكينة بنت الإمام الحسين عليه السلام يستدعي وقوفاً طويلا أمامها والعمد إلى قراءة كل ما صدر منها، ونقل إلينا من سلوكياتها وأفعالها، وبالتالي سوف تكون المحصلة الطبيعية مدرسة سلوكية وقيمية تربوية هادفة يستفيد منها الأجيال على مدى العصور، لكن مما يؤسف له أننا نفتقد إلى أبسط الأمور حول سيرتها الطاهرة ما يجعل الباحث في حيرة، عن السر الذي أدى إلى أن يتجاهل التأريخ مثل هذه الشخصية بما لها من مكانة مرموقة، وسامية.
إلا أنه كما قيل، ما لا يدرك كله، لا يسقط جله، فقد نقل لنا التأريخ نزراً يسيراً يمكن أن تنفتح منه نافذة على سيرتها المباركة، ونضع ذلك في ناحيتين:
الأولى: سيرتها الذاتية:
فهي ابنة الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام أمها الرباب، فتكون شقيقة للرضيع عبد الله عليه السلام شهيد كربلاء، ولعل في هذا ما يبرر العلاقة الوطيدة التي كانت بينهما، والمشار إليها في كتب المقاتل، والسير.
وقد كانت ولادتها في السنة الثانية والأربعين بعد الهجرة النبوية، وقيل في السنة السابعة والأربعين منها، وهذا يعني أنها لم تحض بمعاصرة جدها بطل الإسلام أمير المؤمنين عليه السلام، ولم تعايشه أبان خلافته حتى الظاهرية، بل كانت معاصرة لخلافة عمها الحسن السبط المجتبى عليه السلام. وقد كانت وفاتها في السنة السابعة عشر بعد المائة من الهجرة النبوية، وهذا يعني أن عمرها الشريف يوم وفاتها بناءً على أن ولادتها سنة أثنين وأربعين يكون خمسة وسبعين عاماً، أما لو كان تأريخ ولادتها هو السابع والأربعون فسيكون عمرها سبعون عاماً. وسوف يكون عمرها يوم الطف بناءً على التأريخ الأول لولادتها تسعة عشر عاماً، أما لو بني على التأريخ الثاني، فسوف يكون عمرها أربعة عشر عاماً.
وقد وقع الخلاف بين المؤرخين في اسمها، فذكر أن اسمها آمنة، وقيل أن اسمها أمينة، وقيل أن اسمها أميمة، وربما قيل غير ذلك، إلا أن الصحيح من هذه الأقوال أن اسمها آمنة، وقد أشير في بعض المصادر إلى أن ذلك تسمية لها باسم جدتها آمنة بنت وهب عليها السلام، وتبركاً وتيمناً بها.
ولقبت بأنها سكينة، وقد أختلف في من أطلق عليها هذا الوصف، فذكر أن الواصف لها بذلك هو المولى الإمام الحسين عليه السلام، وقيل أن من وسمها بهذه السمة هي السيدة الرباب عليها السلام. وكما أختلف في المطلق عليها هذا الوصف، أختلف فيه نفسه، فهل هو بفتح السين، فيكون(سَكينة)، أم أنه بضمها فيكون(سُكينة)، والمتداول على الألسن هو الثاني،، وربما يصرّ البعض على أن الصحيح هو الأول، إلا أن المتصور صحة كليهما، وأنه لا يفرق بين توصيفها بفتح السين، أو بضمها. والوجه في ذلك:
أما الأول، وهو ما إذا كانت مفتوحة السين، فسوف يكون المقصود منه الهدوء والوقار والطمأنينة والاستقرار، وقد كانت تتصف بذلك كما أشار له الإمام الحسين عليه السلام في كلمته التي أفتتح بها المقام، حيث قال عليه السلام: وأما سكينة، فغالب عليها الاستغراق مع الله تعالى. فهو عليه السلام بصدد الحديث عن ما كانت عليه عليها السلام من الطمأنينة والهدوء والوقار والاستقرار، لأن الوصول لمثل تلك الحالة التي وصفها عليه السلام بها لا يكون بدون ذلك.
وأما الثاني، أن يكون أصل الكلمة هو سكن، ويقصد منه مكان السكنى، وتصغيره سكين، ومؤنثه سُكينة، وهذا أيضاً محتمل على أساس أنها عليها السلام كانت مسكناً لأبيها الإمام عليه السلام، كما كانت أمها الزهراء(روحي لها الفداء) مسكناً لرسول الله صلى الله عليه واله يأنس به، ويأوي إليه.
الثانية: فضـــلهــــا
قد يتصور الكثير أن السيد الجليلة سكينة لا تعدو واحدة من البيت العلوي، إلا أن ذلك لا يعني أن يكون لها وجود متميز يكشف عن فضل ومكانة لها، ومن المعلوم أن مثل هذه التصورات يساعد افتقار المصادر التاريخية لشيء من الحديث عنها، فيكون سبباً فيه.
إلا أننا لو تأمنا النـزر اليسير الذي وصلنا من التأريخ عنها، لتحصلنا على شخصية متميزة تملك فضلاً وامتيازاً خاصاً يجعلها في عداد النساء العظيمات اللاتي نلن منـزلة خاصة، وذكرن بصفة معينة، هذا وما يمكن أن يستشرف منه فضلها أمور:
منها: الرواية الواردة عن الإمام الحسين عليه السلام حيث قال: وأما سكينة فغالب عليها الاستغراق مع الله فلا تصلح لرجل۱٫
والاستغراق الذي يتحدث عنه الإمام الحسين عليه السلام، يشير إلى حالة الفناء التام الذي بلغته السيدة الفاضلة، بحيث فنيت في ذات الله تعالى ومحبته، ومن الطبيعي أن الوصول إلى مرحلة الفناء لا تـتسنى لكل أحد، وليس لكل فرد أن يصل إليه، وإنما يكون ذلك لفئة خاصة من الخلق، وهم الذين بلغوا أعلى مراتب اليقين، فإذا بلغ الإنسان أعلى مراتب اليقين، أمكنه عندها أن يعيش حالة الفناء وإلا فلا، ومن الواضح جداً أن الوصول إلى أعلى مراتب اليقين لا يكون إلا للأوحدي من الناس، وقد يستشكل في القبول بهذه الرواية، ويطالب برفع اليد عنها، لاشتمالها على ما لا يمكن الالتـزام به، وهو ما جاء في ذيلها، فلو لم يقل أنه تحريم لما حلل الله سبحانه، وهو الزواج، لكفى أن يقال بأنه دعوة للرهبانية، كما لا يخفى.
وهذا الإشكال غير وارد، ضرورة أن التعبير الصادر من الإمام عليه السلام، لا يتضمن تحريماً لحلال أحله الله تعالى، ولا يكشف عن دعوة للرهبانية حتى يقال بما قيل، وإنما الإمام عليه السلام بصدد بيان أنه لابد وأن يكون بين الزوجين كفاءة في كافة الأمور والمجالات، فلا تنحصر الكفاءة بينهما في الناحية المادية والاجتماعية، بل لابد وأن يتكافئ أيضاً من الناحية الفكرية، وكأنه يقرر عليه السلام بأن من كانت مشتغلة بربها، ومتعلقة به، فلا ترى شيئاً سواه، تحتاج إلى زوج يكون عوناً لها على ما هي فيه، لا أن تتزوج رجلاً يشغلها عما تعلقت به، وهذا قريب مما جاء في شأن أمير المؤمنين والزهراء عليهما السلام، فقد ورد أنه لو لم يخلق أمير المؤمنين عليه السلام، ما كان للزهراءعليها السلام كفواً، ومن الطبيعي أن الحديث ليس من حيث الكفاءة المادية، والاجتماعية، وإنما من حيث الكفاءة المعنوية والفكرية. والحاصل، ليس في الرواية المذكورة ما يشير من قريب أو بعيد لمنع التزويج، وتحريمه، أو الدعوة للرهبانية كما تصور.
ومنها: علاقتها مع الإمام الحسين عليه السلام، على أساس أنها تمتاز عن بقية أبناء الإمام عليه السلام بشيء، فضلاً عن خاصيتها عن بقية أخواتها، ويظهر ذلك من خلال وداع الإمام الحسين عليه السلام إياها ليلة العاشر، فقد ذكر أرباب السير والمقاتل أنها لم تكن ليلة العاشر في خيمتها، وقد أخذ الإمام عليه السلام في طلبها، حتى وجدها، وجلس إليها وصار يمسح على رأسها، ذلك أنها قد خرجت من خيمتها، ولم تقدر على وداع المولى عليه السلام، ومن الطبيعي أن ذلك يعود لما كانت تربطها به عليه السلام من علاقة خاصة، فلم تكن لتستطيع وداعه، ومفارقته.
زواجها عليها السلام
من الأباطيل التي طبّل لها رواة السوء، والمرتزقة من حثالات الاُمّة نسبة تعدّد الأزواج للسيّدة سكينة، فقد خبطوا في ذلك خبط عشواء، وغاب عنهم مقياس العلم والأخلاق والأمانة، فكالوا لأهل البيت الطاهرين وأتباعهم ومحبّيهم شتّى أنواع البهت والتهم والافتراءات، كلّ ذلك بسبب ولائهم لأهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.
لقد كان أمر هذا التناقض في الروايات والأخبار يهون لو أ نّه توزّع بين مراجع شتّى مختلفة يتفرّد كلّ منها بإحدى الروايات، فيكون أمام المحقّق أن يختار أقدمها، أو أدعاها إلى الثقة، على هدى القواعد المقرّرة للترجيح والمقابلة، والتعديل والتجريح، ولكن نجد كلّ الروايات التي أمامنا متناقضة، تجتمع في المصدر الواحد دون محاولة من مؤلّفها للفصل بينها، أو حسم الخلاف فيها، وحتّى دون كلمة تؤذن بأ نّه يحسّ طبعاً بهذا الخلاف.
في صفحة واحدة من كتاب الأغاني مثلا نجد أربع روايات متناقضة، متضاربة، سردها أبو الفرج متتابعة دون تمحيص ثمّ لا شيء أكثر من هذا السرد، وهذا يدلّ على كذب الراوي الأوّل والرواة الذين جاؤوا بعده، وليس له تفسير إلاّ الحقد الأعمى واتباع السلطان.
أمّا الذي عليه الشيعة أتباع مذهب أهل البيت، فهو أنّ السيّدة سكينة لم تتزوّج غير ابن عمّها عبد الله بن الإمام الحسن عليه السلام فقط وفقط، وهناك روايات تقول ثمّ تزوّجت بمصعب بن الزبير.
ويوافق الشيعة على زواجها بعبد الله بن الحسن عليه السلام غيرهم من أهل السنّة، ويروى أنّ عبد الله بن الحسن هو الذي قطعت أصابعه لمّا كان على صدر عمّه الحسين عليه السلام يوم عاشوراء مستجيراً به(۲).
فالثابت عندنا تاريخياً أنها قد تزوجت من ابن عمها عبد الله بن الحسن السبط عليه السلام، ء، وأمه رملة فهو الأخ الشقيق للقاسم بن الحسن عليهما السلام، وقد نص على ذلك في كلام أبي الفرج الأصفهاني، والعمدة في ما ذكرنا ما أشير إليه في كلمات المؤرخين الأمناء من أمثال أبي الحسن العمري في كتاب المجدي في أنساب الطالبين(۳)، وشيخنا الطبرسي(ره) في أعلام الورى بإعلام الهدى، والسيد الأمين في أعيان الشيعة۴٫
لقاءها مع الشعراء، واستماعها الغنــاء
وهذه هي التهمة الثانية التي وجهها أبو الفرج الأصفهاني إلى مولاتنا الطاهرة السيدة سكينة بنت الإمام الحسين عليهما السلام، حيث ذكر اجتماع الشعراء في بيتها للضيافة، وأنهم قد حضر عندها، جرير والفرزدق، وكثير والأحوص، وجميل ونصيب، واختصموا في المفاضلة فيما بينهم، وأنها جلست تراهم ولا يرونها، وأخرجت وصيفة لها روت الأشعار فكانت الوصيفة تلقي على سكينة شعر كل واحد منهم، وترجع إليهم بما تعيبه سيدتها (۵) ويكفي لمعرفة مقدار ما في هذا الخبر من الكذب أن تعرف أن أبا الفرج مرواني الهوى والانتماء، فكيف يتصور من مثله أن يحدث في شأن آل الرسول صلى الله عليه واله لأن من الطبيعي ألا يجتمع أمران متنافران في مكان، فلا يجتمع حب آل البيت عليهم السلام، وجدهم المصطفى صلى الله عليه واله، وآل مروان. مضافاً إلى أن هذه الأخبار ضعاف الأسناد، ويمكن للقارئ العزيز متابعة أحوالهم في كتب الرجال.
على أننا لو تنـزلنا ورفعنا اليد عن الوضع والضعف السندي الموجود في مثل هذه الأكاذيب التي سود بها أبو الفرج صحائف كتابه، يكفينا أموراً تمنع من القبول بمثل هذا الخبر:
منها: إن هذه النصوص تتضمن الاستماع إلى الغناء، وقد تضمنت الشريعة الغراء النص على حرمته، وحرمة الاستماع إليه، فكيف يتصور بسليلة البيت العلوي، وربيبة الطهارة المحمدية، والعفة الفاطمية أن تكون مستمعة له، أو متعاطية معه.
ومنها: اشتمال النصوص على النظر إلى الرجال الأجانب، مع أن الشريعة المقدسة، قد حرمت ذلك ومنعت عنه منعاً شديداً، وكلنا يستمع لكلمة أمها الزهراء عليها السلام: خير للمرأة ألا ترى الرجال، ولا يراها الرجال، فكيف يتصور ببنت الزهراء عليهما السلام أن تكون ناظرة للرجال، ومشرفة عليهم، إن هذا من العجاب الذي لا يقبله أحد عرف أهل هذا البيت عليهم السلام.
وعندما نعود لقراءة الأحداث التاريخية، يمكننا أن نتعرف دواعي وجود هذه الأراجيف والأكاذيب في كلمات أبي الفرج، فإن ذلك يعود إلى صراع سياسي محتدم بين البيت الزبيري وبين آل الرسول صلى الله عليه واله، ولذا عمدوا إلى محاول تقليل شأنهم عند الناس من خلال إبراز أن الهالة القدسية التي يتحلون بها، وما يملكونه من صفات جمى، ليست كما يدعى، بل هم دون ذلك. فجاءت هذه الدعاوى والأكاذيب، فنسبت جليلة من جليلاتهم إلى أنها تنادم الشعراء، وتستمع إلى الغناء، وما شابه ذلك.
ولعمري أن سكينة التي حدثت كتب التاريخ عنها إنما هي سكينة بنت مصعب الزبيرية، والشواهد التاريخية على ذلك كثيرة۶٫
——————————————————————————————-
۱- إسعاف الراغبين ص ۱۰۲٫
۲- إعلام الورى: ۱۲۷، إسعاف الراغبين: ۲۱۰، رياض الجنان: ۵۱، مقتل الحسين (عليه السلام) للمقرّم: ۳۳، سكينة بنت الحسين (عليه السلام): ۷۲، أدب الطف ۱: ۱۶۲، سفينة البحار ۱: ۶۳۸٫
۳- إسعاف الراغبين ص ۱۰۲٫
۴- الأغاني ج ۱۶ ص ۱۵۸٫
۵- أعيان الشيعة ج ۵ ص ۳۴۳٫