الميرزا التبريزي ثلمة لا يسدها شيء
إذا أردت أن اتحدث عن فضله وعلمه، أو أن تتحدث عن ورعه وتقواه، أو أن تتحدث عن جده واجتهاده، أو أن تتحدث عن صبره ومعاناته، أو أن تتحدث عن صدقه ومصداقيته، أو أن تتحدث عن تبصره وبصيرته، أو أن تتحدث عن سعة اطلاعه وواسع معرفته، أو أن تتحدث عن تحقيقه وتدقيقه، أو أن تتحدث عن تثبته وتتبعه، أو أن تتحدث عن تعقله وحكمته، أو أن تتحدث عن وضوح آرائه وصلابة مواقفه، أو أن تتحدث عن إقدامه وشجاعته، أو أن تتحدث عن تأنيه وحيطته، فأنت في كل ذلك كناقل التمر إلى هجر، أو كالمشير إلى الشمس في رابعة النهار، فشمسه الساطعة اليفة العيون المبصرة، لا يُذهلها عنها إلا اُنس العادة، ولا يصرفها إلا انشغال الإرادة.
أما اذا أردت الحديث عن شمس وجدانه الكامنة التي تستمد منها شمسُ سلوكه الساطعة، فلابد لك في اكتناه سرها أن تستجلي مجرى النور الذي يصلها بالشمس العظمى التي يجللها السحاب. حيث لا يكون مثله مرجعاً حقاً في حيز من الزمان إلا اذا تجاوزت روحه دائرة الزمان لترتبط بامام الزمان وترتشف النور من صاحب العصر والزمان.
فإلى أي مدى يجب أن ترتقيَ النفس، وإلى أي اُفق رحب يجب أن تسمو الروح، لتصبح كل حركة وسكنة تصدر عنها خاشعة لإمام زمانها، مستظلة بظل عنايته ورعايته، منبعثة من نبع رضاه، فما يُحرز فيها رضاه(عليه السلام) مدار الحركة والسكون، وجوهر الكيان، والسر المقدس الذي به يُستخلف الانسان.
بهذا كان له(قدس سره) موقعُ المرجعية الحقة، وكان مرجعاً حقاً حارساً للعقيدة وحافظاً للشريعة وقائداً للمسيرة، نهل من نمير علمه الاعلام، واهتدى بحكيم آرائه العظام، واقتدى بسديد مواقفه الانام، واستنار بهديه التائهون في الظلمات، واستدفع به الحائرون ملتبس الشبهات.
ولا عجب، اذ هكذا تكون المنارة المستمدة من شعاع الامامة المعصومة، عِلماً واضحاً تستضيء به الامة، وركناً وثيقا يُلجئ إلى نهج الائمة، وحصناً حصيناً لا يتزعزع، وعزماً راسخاً لا يتزحزح، وتلبية صارمة لنداء الحق لا تتهيب، واقداماً حازماً لا يخاف في الله لومة لائم، وصبراً جميلاً يطوي المعاناة ويتجاوز الاخطار، يستمد من الأبوة المحمدية والعلوية ليُغرِق في العطاء والتضحية والايثار.
ولا تحسبن هذا المرتقى سهل المنال في زمن بلغ أو شارف ان يكون القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر، والسائر فيه كالمتحرك بين قطرات المطر أو المتخطي بين مزالق الخطر.
في زمن اختلط فيه حابل الدين بنابل السياسة، وتحولت فيه الشعائر إلى شعار، واختُزِلت مصلحة الامة في مصلحة السلطة، ولم يبق ما يرسم الأولويات بين مقتضيات المرحلة ومقتضيات التاريخ، ولم يعد من فرق بين مسيرة الحاضر ومسيرة الحضارة، أو مائز بين سياسة تهدف إلى السلطة وسياسة تهدف إلى حفظ الامة من السلطة، أو حفظها خارج دائرة السلطة.
في زمن التسبت فيه المرجعية الدينية بالمرجعية السياسية المتطبعة بالدين، فضلاً عن المتمرجعين، حتى ليحسب المتوجس ويظن المتهجس ان سلسلة المرجعية الدينية التاريخية الحقة التي جعلها الله مأمناً لرسالته قد انقطعت أو انها تكاد، فكان الميرزا جواد التبريزي، كان بحيث يمكن ان يقال في مفاصل الصراع:
كنا وكانوا وكان السدَّ يحجزهم *** أن يستباح نمير النهر بالكدر
فالميرزا جواد التبريزي ليس مرجعاً يتحرك في دائرة أشعة الامام المعصوم، وانما هو مرجع لايتحرك الا في دائرة أشعة الامام المعصوم(عليه السلام). وشتان بين مرجعية يمكن أن تتجاوز حدود الدائرة لتبدأ من حق وتنتهي إلى باطل أو تمر بباطل، ومرجعية تصفو فيها البدايات والنهايات وما بينهما من المسافات.
هكذا عرفنا الميرزا(قدس سره) وبهذا امتاز، وبهذا الامتياز رجعت نفسه المطمئنة إلى ربها راضية مرضية، لكنه ترك ثلمة نخشى أن لا يسدها شيء.
الراجي فضل ربه
عبد الحليم شرارة العاملي