وأمّا مسلك التفويض المقابل للجبر، فقد يقال إنّه مبني على مسلك استغناء الممكن في بقائه عن العلة.
ولكن لا يخفى سخافة هذا البناء والمبنى، وذلك لأنّ بقاء الممكن بلا علّة، كحدوثه بلا علة في الامتناع، حيث إنّ اختلاف الأشياء الممكنة في البقاء والزوال، واختلافها في طول البقاء وقصره، يكون مستنداً إلى أمر لا محالة، ولو كان مجرّد العلّة لحدوث شيء كافياً في بقائه مع استواء البقاء والزوال بالإضافة إليه لأمكن تحققه كذلك في الآن الأوّل أيضاً بعين وجه تحقّقه في الآن الثاني. وبالجملة فما في الكون من الممكنات تحتاج في بقائها، كحدوثها إلى الموجب.
وينبغي أن يبتني مسلك التفويض على أمر آخر، وهو أنّ الممكن وإن كان محتاجاً في بقائه إلى العلّة، إلاّ أنّ حاجة الكائنات ومنها الإنسان إلى ذات الباري (عزّ وجلّ) من قبيل حاجة المنفعل والمصنوع إلى الفاعل والصانع، فتكوين الإنسان وسائر الكائنات وإن حصل بإرادة اللّه (عزّ وجلّ) ومشيّته التي بها تكوّنت الأشياء وظهرت من ظلمات الماهيات إلى نور الوجود إلاّ أنّ بقائها مستند إلى موجبات البقاء فيها من الخصوصيات والاستعدادات المكنونة في بعض الأشياء واستمداد بعضها من البعض الآخر نظير البناء، فإنّه وإن احتاج في حدوثه إلى البنّاء، ولكن بقائه مستند إلى القوة والاستعداد في الأجزاء المستعملة في البناء.
واللّه (سبحانه) خلق الأشياء وكوّنها بإرادته ومشيّته، بما فيها من الخصوصيّات والاستعدادات، ولكن تلك الخصوصيّات والاستعدادات الحادثة بعد حدوث المَثَل أو قبله تنتهي وتفنى، وإذا انتهى بعض ما في الكون الظاهر لنا من الخصوصيّات والاستعدادات يظهر أنّ كلّ شيء منه فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام، وعلى ذلك فالإنسان المخلوق في الكون والباقي منه الموجود بتوليد المثل يكون كلّ ما يفعله بإرادته واختياره من نفسه، ولا يستند شيء منها إلى الخالق (سبحانه) لعدم استناده في البقاء إليه.
ولكن لا يخفى سخافة هذا الوجه أيضاً، فإنّ الكائنات في العالم لا تقاس بالبناء الحاصل من فعل البنّاء، فإنّ خالق الكائنات حيّ قيّوم له ملك السموات والأرض، إذا أراد شيئاً يكون، وإذا أراد عدمه فلا يكون، بلا فرق في ذلك بين الأشياء الحاصلة بالعلل المادية أو من أفعال الإنسان أو غيره.
وليس المراد أنّ العلّية بين المعلولات وعللها باطلة وإنّما جرت عادة اللّه (سبحانه) أن يخلق بعض الأشياء بعد خلق بعضها الآخر كما يقول به القائل بالجبر تحفّظاً على التوحيد.
بل المراد أنّ بقاء الشيء المستند إلى علّته المبقية ـ ليصير علّة لوجود شيء آخر إنّما ينشأ من عدم تعلّق إرادة اللّه بإفنائه كما أنّ حصول شيء من شيء آخر موقوف على تعلّق إرادة اللّه بحصوله منه، وإلاّ فإن تعلّقت إرادته (جلّت قدرته) بأن لا يوجد فلا يوجد، إمّا بإرادة زوال العلّة أو بخلق المزاحم للتأثير والعلّية (وَكانَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْء مُحِيْطاً)(۲۸).
وقد تقدّم أنّ مشيّته (جلّت عظمته) قد تعلّقت بكون الإنسان قادراً متمكّناً من الأفعال، ومنها الأفعال التي تعلّق بها طلبه وإرادته بمعني الإيجاب والندب، وما تعلّق به زجره ومنعه، كي يتميّز المطيع من العاصي، والكافر من المؤمن، والصالح من الطالح، (وَاللّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيْطٌ)(۲۹)، (وَاللّهُ بِما يَعْمَلُوْنَ مُحِيْطٌ)(۳۰)، (وَلَوْ شاءَ اللّهُ ما فَعَلُوْهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُوْنَ)(۳۱)، (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لاَمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيْعاً)(۳۲)، (وَلَوْ شِئْنا لاَتَيْنا كُلُّ نَفْس هُداها)(۳۳).
ومع كون العباد وأفعالهم محاطاً بهم (وَكانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْء رَقِيْباً)(۳۴) قد تصيب رحمته ورأفته العبد ويؤيّده حتّى يجتنب الحرام، أو يفعل الطاعة، قال (عزّ من قائل): (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ)(۳۵)، (فَاعْلَمُوا أنَّ اللّهَ يَحُوْلُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)(۳۶)، وقال سبحانه: (اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْء وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْء وَكِيْل)(۳۷)، (قَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيْهِمْ وَلُعِنُوا بِما قَالُوا)(۳۸)، إلى غير ذلك من الآيات الواضحة في أنّه (تعالى) هو القاهر فوق كلّ شيء، وأنّه يحيي ويميت، وينزل الغيث، ويرزقكم من السماء، وبيده ملكوت كلّ شيء.
والبرهان العقلي على ذات الحقّ (جلّ وعلا) مقتضاه أيضاً ما ذكر، والتعرّض له لا يناسب المقام، ومن اللّه الهداية والرشاد.
(۲۸) سورة النساء: الآية ۱۲۶٫
(۲۹) سورة البروج: الآية ۲۰٫
(۳۰) سورة الأنفال: الآية ۴۷٫
(۳۱) سورة الأنعام: الآية ۱۳۷٫
(۳۲) سورة يونس: الآية ۹۹٫
(۳۳) سورة السجدة: الآية ۱۳٫
(۳۴) سورة الأحزاب: الآية ۵۲٫
(۳۵) سورة التغابن: الآية ۱۱٫
(۳۶) سورة الأنفال: الآية ۲۴٫
(۳۷) سورة الزمر: الآية ۶۲٫
(۳۸) سورة المائدة: الآية ۶۴٫