وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا

وهو أشد أنواع قطيعة الرحم، إذ أخص الأرحام وأمسها ما كان بالولادة، فيتضاعف تأكد الحق فيهما، فهو كقطيعة الرحم، إما يكون ناشئا من الحقد والغيظ، أو من البخل وحب الدنيا، فيكون من رذائل إحدى قوتي الغضب والشهوة. ثم جميع ما يدل على ذم قطيعة الرحم يدل على ذم العقوق، ولكونه أشد أنواع القطيعة وأفظعها، وردت في خصوص ذمه آيات وأخبار أخر كثيرة، كقوله تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا﴾. وقول رسول الله صلى الله عليه واله: “كن بارا واقصر على الجنة وإن كنت عاقا فاقصر على النار”.

وعن أبي جعفر عليه السلام قال: “قال رسول الله في كلام له: إياكم وعقوق الوالدين، فإن ريح الجنة توجد من مسيرة ألف عام، ولا يجدها عاق، ولا قاطع رحم، ولا شيخ زان، ولا جار إزاره خيلاء. إنما الكبرياء لله رب العالمين”. وقوله صلى الله عليه واله: “من أصبح مسخطا لأبويه، أصبح له بابان مفتوحان إلى النار”.

وعن أبي جعفر عليه السلام قال: “إن أبي عليه السلام نظر إلى رجل ومعه ابنه يمشي والابن متكئ على ذراع الأب، قال: فما كلمه أبي مقتا له حتى فارق الدنيا”.

وقال الصادق عليه السلام: “من نظر إلى أبويه نظر ماقت، وهما ظالمان له، لم يقبل الله له صلاة”.

وقال الصادق عليه السلام: “إذا كان يوم القيامة، كشف غطاء من أغطية الجنة فوجد ريحها من كانت له روح من مسيرة خمسمائة عام، إلا صنفا واحدا”فقيل له: من هم؟ قال: “العاق لوالديه”.

وقال عليه السلام: “لو علم الله شيئا هو أدنى من أف لنهى عنه، وهو من أدنى العقوق. ومن العقوق أن ينظر الرجل إلى والديه فيحد النظر إليهما”.

وسئل الكاظم عليه السلام عن الرجل يقول لبعض ولده: بأبي أنت وأمي ! أو بأبوي أنت ! أترى بذلك بأسا؟ فقال: “إن كان أبواه حيين فأرى ذلك عقوقا وإن كانا قد ماتا فلا بأس”.

والأخبار في ذم العقوق أكثر من أن تحصى، وورد في بعض الأخبار القدسية: “بعزتي وجلالي وارتفاع مكاني ! لو أن العاق لوالديه يعمل بأعمال الأنبياء جميعا لم أقبلها منه”.

وروي أيض: “أن أول ما كتب الله في اللوح المحفوظ: إني أنا الله لا إله إلا أنا، من رضي عنه والداه فأنا منه راض، ومن سخط عليه والداه فأنا عليه ساخط”.

وقد ورد عن رسول الله أنه قال: “كل المسلمين يروني يوم القيامة، إلا عاق الوالدين، وشارب الخمر، ومن سمع اسمي ولم يصلي علي”.

وقد ثبت من الأخبار والتجربة أن دعاء الوالد على ولده لا يرد ويستجاب البتة.

ودلت الأخبار على أن من لا ترضى عنه أمه تشتد عليه سكرات الموت وعذاب القبر.

و بر الوالدين ضد العقوق ( بر الوالدين ) والاحسان إليهما، من أفضل القربات، وأشرف السعادات. ولذلك ورد ما ورد من الحث عليه، والترغيب إليه. قال الله سبحانه: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾. وقال: ﴿وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾.

وقال رسول الله صلى الله عليه واله: “بر الوالدين أفضل من الصلاة والصوم والحج والعمرة والجهاد في سبيل الله”. وقال صلى الله عليه واله: “من أصبح مرضيا لأبويه أصبح له بابان مفتوحان إلى الجنة”.

وعن أبي عبد الله عليه السلام: “لا تشرك بالله شيئا وإن حرقت بالنار وعذبت إلا وقلبك مطمئن بالإيمان، ووالديك فأطعهما وبرهما وإن أمراك، أن تخرج من أهلك ومالك فافعل، فإن ذلك من الإيمان”.

وعن أبي عبد الله عليه السلام: قال: “جاء رجل وسأل النبي صلى الله عليه واله عن بر الوالدين. فقال: أبرر أمك، أبرر أمك أبر أمك أبرر أباك أبرر أباك وبدأ بالأم قبل الأب”.

وعن أبي عبد الله – عليه السلام – قال: “جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه واله، فقال: يا رسول الله، من أبر؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أباك”. وأتاه رجل آخر وقال: “إني رجل شاب نشيط، وأحب الجهاد، ولي والدة تكره ذلك. فقال له صلى الله عليه واله: أرجع فكن مع والدتك، فوالذي بعثني بالحق ! لأنسها بك ليلة خير من جهاد في سبيل الله سنة”.

وقال أبو عبد الله عليه السلام: “إن رسول الله صلى الله عليه واله أتته أخت له من الرضاعة، فلما نظر إليها سرّ بها، وبسط ملحفته لها، فأجلسها عليها، ثم أقبل يحدثها ويضحك في وجهها، ثم قامت فذهبت وجاء أخوها، فلم يصنع به ما صنع بها، فقيل له: يا رسول الله، صنعت بأخته ما لم تصنع به وهو رجل، فقال: لأنها كانت أبر بوالديها منه”.

وقيل للصادق عليه السلام: “أي الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة لوقتها، وبر الوالدين، والجهاد في سبيل الله”. وقال رجل له عليه السلام: “إن أبي قد كبر جدا وضعف، فنحن نحمله إذا أراد الحاجة. فقال: إن استطعت أن تلي ذلك منه فافعل، ولقمه بيدك، فإنه جنة لك غدا”.

وقال رجل له عليه السلام: “إن لي أبوين مخالفين. فقال: برهما كما تبر المسلمين ممن يتولانا”.

وقال رجل للرضا عليه السلام: “أدعو لوالدي إذا كانا لا يعرفان الحق؟ قال: ادع لهما وتصدق عنهما، وإن كانا حيين لا يعرفان الحق فدارهما، فإن رسول الله صلى الله عليه واله قال: إن الله بعثني بالرحمة لا بالعقوق”.

وقد وردت أخبار أخر في الأمر بالبر والاحسان إلى الوالدين، وإن كانا على خلاف الحق.

وقال عليه السلام: “ما يمنع الرجل منكم أن يبر والديه حيين وميتين، ويصلي عنهما، ويتصدق عنها، ويحج عنهما، ويصوم عنهما، فيكون الذي صنع لهما وله مثل ذلك، فيزيده الله عز وجل ببره وصلاته خيرا كثيرا”. والأخبار في ثواب بر الوالدين غير محصورة. فينبغي لكل مؤمن أن يكون شديد الاهتمام في تكريمهما وتعظيمهما واحترامهما، ولا يقصّر في خدمتهما، ويحسن صحبتهما، وألا يتركهما حتى يسألاه شيئا مما يحتاجان إليه، بل يبادر إلى الاعطاء قبل أن يفتقر إلى السؤال، كما ورد في الأخبار، وإن أضجراه فلا يقل لهما أف، وإن ضرباه لا يعبس وجهه، وقال لهم: غفر الله لكما، ولا يملأ عينيه من النظر إليهما إلا برحمة ورقة، ولا يرفع صوته فوق صوتهما، ولا يده فوق أيديهما، ولا يتقدم قدامهما، بل مهما أمكن له لا يجلس عندهما، وكلما بالغ في التذلل والتخضع كان أجره أزيد وثوابه أعظم.

وبالجملة: إطاعتهما واجبة وطلب رضاهما حتم، فليس للولد أن يرتكب شيئا من المباحات والمستحبات بدون إذنهما، ولذا أفتى العلماء بأنه لا تجوز المسافرة في طلب العلم إلا بأذنهما، إلا إذا كان في طلب علم الفرائض، من الصلاة والصوم وأصول العقائد، ولم يكن في بلده من يعلمه، ولو كان في بلده من يعلمه لم تجز المسافرة.

وقد روي: “أن رجلا هاجر من اليمن إلى رسول الله صلى الله عليه واله وأراد الجهاد، فقال له: ارجع إلى أبويك فاستأذنهما، فإن أذنا فجاهد، وإلا فبرهما ما استطعت، فإن ذلك خير مما كلف به بعد التوحيد”.

وجاء آخر إليه للجهاد، فقال: “ألك والدة؟”قال: نعم ! قال: “فالزمها، فإن الجنة تحت قدمها”.

وجاء آخر، وطلب البيعة على الهجرة إلى الجهاد، وقال: ما جئتك حتى أبكيت والدي. قال: “ارجع إليهما، فأضحكهما كما أبكيتهما”.

ولو وقعت بين الوالدين مخالفة، بحيث توقف رضى أحدهما على سخط الآخر، فينبغي أن يجتهد في الإصلاح بينهما بأي طريق أمكن، ولو بالعرض إلى فقيه البلد حتى يطلبهما ويعظهما ويقيمهما على الوفاق، لئلا ينكسر خاطر أحدهما منه.

وأعلم أن حق كبير الأخوة على صغيرهم عظيم، فينبغي محافظته. قال رسول الله صلى الله عليه واله: “حق كبير الأخوة على صغيرهم كحق الوالد”.