ثمّ إنّه يقع الكلام في المراد بالاستنباط من القاعدة الأُصولية، هل هو الاستنباط بلا ضمّها إلى قاعدة أُخرى من قواعد الأُصول أو المراد به الاستنباط ولو بضمّها إليها، فإن كان المراد هو الأوّل فمن الظاهر ان المسائل الأُصولية ليست كذلك، وإن كان المراد هو الثاني دخل في المسائل الأُصولية، مسائل علم الرجال أيضاً.
ذهب سيدنا الاستاذ (قدس سره) إلى الأول ولكن لا بنحو كلّي، فذهب إلى أنّ القاعدة الأُصولية هي التي يكون ضم صغراها إليها كافياً في استنباط الحكم الفرعي الكلي ولو في مورد واحد، بخلاف القواعد في سائر العلوم فإنّها لا تكون كذلك، بل دائماً تحتاج إلى قاعدة أُصولية لاستنباط الحكم الشرعي منها، فمثلا مسألة «ظهور صيغة الأمر في الوجوب» مسألة أُصولية وإذا أُحرز الأمر بفعل بصيغته في الكتاب المجيد أو السنة القطعية يستنبط منه وجوب ذلك الفعل.
لايقال: لابدّ في الحكم بوجوب ذلك الفعل من ضمّ كبرى حجية الظواهر.
فإنّه يقال: إنّ المسألة الأُصولية هي التي لا تحتاج لاستنباط الحكم الشرعي منها إلى ضمّ قاعدة أُخرى من قواعد الأُصول إليها، لا أنها لا تحتاج إلى ضمّ مقدمة أُخرى أصلاً، وحجّية الظواهر من المسلمات التي لم يقع الخلاف فيها، وباعتبار ذلك لم تجعل من مسائل علم الأُصول، وإن وقع الخلاف فيها في موارد، كحجية ظواهر الكتاب المجيد، أو حجية الظاهر مع الظن بالخلاف، وحجية الظهور لغير من قصد إفهامه.
والحاصل أنّ استنباط الحكم من قاعدة ظهور صيغة الأمر في الوجوب وإن كان يحتاج إلى مقدمة أُخرى إلاّ أنّ تلك المقدمة ليست من مسائل علم الأُصول ولا من مسائل سائر العلوم، وهذا بخلاف مسائل سائر العلوم، فإنّه يحتاج لاستنباط الحكم منها إلى ضمّ قاعدة أُصولية لا محالة.
ثمّ أردف هذا القائل الجليل (قدس سره) أنّه لا يلزم أن تكون نتيجة المسألة الأُصولية على كل تقدير كذلك، بل يكفي في كون المسألة أُصولية كون نتيجتها كذلك، ولو على بعض التقادير. مثلا مسألة «اقتضاء الأمر بشيء للنهي عن ضدّه الخاصّ» وإن كانت لا تكفي بمجردها للاستنباط على تقدير القول بالاقتضاء، بل نحتاج لاستنباط الحكم منها إلى ضمّ مسألة أُصولية أُخرى هي «اقتضاء النهي عن عبادة، ولو كان غيرياً فسادها» إلاّ أنّه على القول بعدم الاقتضاء يستنبط منها بضمّ صغراها صحة العبادة المضادة للواجب، كالصلاة في أوّل الوقت مع وجوب إزالة النجاسة عن المسجد.
لايقال: نفس ثبوت الحرمة الغيرية للضد الواجب وعدم ثبوتها له حكم شرعي يستنبط من نفس مسألة «اقتضاء الأمر بشيء النهي عن ضدّه» فكيف لا تكون المسألة كافية في الاستنباط؟
فإنّه يقال: نفس الحرمة الغيرية لشيء لا يعدّ أثراً عملياً ولا تكون المسألة ـ بهذا الاعتبار ـ مسألة أُصولية، كما يأتي توضيحه في بحث مقدمة الواجب(۳).
أقول: الصحيح أنّه لا يستنبط من مسألة «اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه» بمجرّدها الحكم الفرعي العملي، سواءً التزم فيها بالاقتضاء أو عدمه. فإنّه حتّى على القول بعدم الاقتضاء نحتاج ـ لتصحيح العبادة المضادة ـ إلى ضمّ قاعدة أُصولية أُخرى هي قاعدة جواز الترتب (أي جواز الأمر بالمتضادّين ترتّباً)، أو قاعدة عدم التزاحم بين الواجب الموسع والمضيَّق، أو قاعدة كشف الملاك الالزامي في الفرد العبادي المضاد من إطلاق المتعلّق في خطاب التكليف، كما ذكروا تفصيل ذلك في بحث الضدّ.
ثمّ إنّه تكون مسألة من سائر العلوم بنفسها كافية في الاستنباط بضمّ صغراها إليها، ولو في بعض الموارد، كبعض مسائل علم اللغة التي يستفاد منها معنى الوجوب والحرمة والكراهة أو معنى النجس والطاهر، مما يدلّ على الحكم تكليفاً أو وضعاً، فإنّه إذا وقعت هذه الألفاظ في الكتاب أو في الخبر المحفوف بقرينة موجبة للقطع بصدوره وجهته، استنبط منه الحكم بلا ضمّ مقدمة أُصولية أُخرى.
والحاصل: يتعيّن أن يراد بالاستنباط من القواعد الأُصولية ما هو الأعمّ من الاستنباط بضمّ قاعدة أُخرى من مسائله (حتّى في جميع الموارد).
وإنما لم تُجعل مسائل علم الرجال وبعض مسائل علم اللغة من علم الأُصول، باعتبار وضوحها أو باعتبار البحث عنها في علم آخر.
نعم المباحث التي تذكر في كتب الأُصول ولكن لاتكون واسطة في استنباط نفس الحكم بل يحرز بها الموضوع أو المتعلّق للحكم، كمباحث المشتق والحقيقة الشرعية والصحيح والأعم ونحوها، لا تدخل في مسائل علم الأُصول، بل تعتبر من المبادئ التصورية لعلم الفقه، بخلاف المسائل الأُصولية فإنّها من المبادئ التصديقيّة لعلم الفقه. ولذا ينبغي تقسيم المسائل الأُصولية إلى أربعة أقسام:
الأوّل: مباحث الدلالات اللفظية وتعيين الظهورات فيها.
الثاني: مباحث الاستلزامات العقلية، ولو كانت غير مستقلّة، كبحث الملازمة بين إيجاب شيء إيجاب مقدمته.
الثالث: مباحث الحجج الاعتبارية والأمارات.
الرابع: مباحث الأُصول العملية والوظائف المقرّرة للشاك عقلاً أو شرعاً.