الفقيهُ التبريزي .. شلالُ الوَلاءِ وَإعصارُ العِدَاء
يا ضلعَ فاطـمَ مَن سيبذلُ نفسَهُ لكَ فـادياً إنْ قـيلَ لمْ تتكـسرِ
يا آهةَ الزهراءِ مَن يحـمي الحِمى إنْ قيـلَ عندَ جداركِ لمْ تُعـصَرِ
يا طفلَهَا المقتول عصراً في الحشى مَن ينـبري إنْ قـيلَ لم تتـعفرِ
هَا قد هوى فهـوى لواءُ دفاعهِ فعـليهِ يا عينَ الـولاءِ تفجري
لستُ هنا بصدد الحديث التحليلي عن شخصية المرجع الديني الكبير ، سماحة آية الله العظمى ، الشيخ التبريزي ( طيب الله تربته ، ورزقنا شفاعته ) فإنَّ ذلك مما أعترف بعجزي وقصوري عنه ، وإنما بصدد تجلية بعض اللمحات التي لمحتها شخصياً في شخصيته المباركة ، والتي أجد من الضرورة تسجيلها وتخليدها ، إذ لعلَّ غيري قد يفوته ذكرها .
1 / اللمحةُ الأولى : قوةُ التوكل .
من المراتب العالية جداً التي لا يصل لها إلا القلة من الأولياء : مرتبة التوكل ، والتي تعني الاطمئنان التام ، والثقة الكاملة بذات الحق سبحانه وتعالى ، المنعكسة عن عمق المعرفة بالله ، وقوة اليقين بجمال أفعاله وصفاته .
إذ ليس يقوى العبد على الوصول إلى شامخ هذه المرتبة ، إلا فيما لو فَوَّضَ كل أموره إلى خالقه المدبر ، مع الاعتقاد الجازم بأنه تعالى لا يصنع بعبده إلا ما فيه صلاحه ، وترى العبد المتوكل في هذه المرتبة لا يعرف طريقاً إلى الأسباب الظاهرية التي قد توصله إلى مطلوبه ، لأنَّ قلبه قد ارتقى عنها مرتقىً بعيداً ، وصار بحيث لا يعرف سوى ربه سبباً .
وهكذا كان شيخنا التبريزي ( طيب الله تربته ، ورزقنا شفاعته ) فإنه كان في عظمة توكلهِ أعجوبةً من أعاجيب الزمان ، وإنَّ مواقفه الشريفة لأوضحُ شاهدٍ على ذلك ، وسوف أكتفي بعرض موقفٍ من مواقفه ، فإنَّ فيه الكفاية للدلالة على ما أريد الاستشهاد عليه .
وذلك عندما وقف موقفه التأريخي حول موجة التشكيك في مصائب السيدة الطاهرة ، المظلومة الشهيدة ( أرواحنا لتراب نعلها الفداء ) فإنه قد توالت عليه حينها الكثيرُ من الرسائل والفاكسات المهددة والمتوعدة ، وهذا ما أوجب إثارة مشاعر الخوف والقلق عند ذويه وأصحابه ، فطلبوا منه مرافقته عند خروجه من محل تدريسه – حيث كان لا يرضى بذلك في سابق الزمان – غير أنه قد رفض ذلك أشدَّ الرفض ، وقال : إنَّ التي بذلتُ نفسي للدفاع عنها ، هي التي ستتكفل بحفظي .
وهكذا كانَ يخرجُ – كما كنّا نراه – من محل درسه في المسجد الأعظم ، بجوار حرم كريمة الأئمة ، وسليلة أهل العصمة ( عليها أفضل الصلاة والتحية ) ويتجه إلى بيته وحيداً ، من غير أن يرافقه أحد ، مع أنَّ تلك الفترة كانت من أصعب وأشد وأحرج الفترات التي عاشها ( رضوان الله عليه ) ، حيث كان فيها مُعرّضاً للخطر والضرر في أي لحظة ، ولكنه مع ذلك لم يأبه ولم يعبأ ، وهذا إن كان يكشف عن شيء فهو يكشف عن عمق يقين المعرفة لديه ، وعظمة ثقته بالله وجنوده ( عليهم السلام ) .
2 / اللمحةُ الثانية : الاهتمام بمأساة سيد الشهداء ( ع ) .
هُنالكَ ظاهرة عجيبة في مسيرة الآية التبريزي ( قده ) تشد المتأمل إليها ، وهي انشداده إلى مأساة سيد الشهداء الحسين ( عليه السلام ) ، وكان لهذا الانشداد عدة مبرزات تجلّت في مواقفه وأقواله ، وسوف أكتفي بعرض أحدها ، لأنه كفيل بإبراز تلك الحالة الولائية عنده من ناحية ، وإزالة الغبار عن بعض المفاهيم والتصورات المشوهة من ناحية أخرى .
والموقف الذي ألمحتُ إليه ، هو : أن الشيخ التبريزي ( قده ) كان شديد الاهتمام بخطباء المنبر الحسيني الشريف ، وحريصاً جداً على تقديرهم وتبجيلهم ، ولم يكن هذا منه ( طيب الله تربته ) إلا لأجل أن الخطباء الكرام ( أعزهم الله تعالى ) هم أصوات الخطب الحسيني ، من خلال إثارتهم وعرضهم لمصائب سيد الشهداء الحسين ( ع ) والصفوة الطاهرة من أهله وصحبه .
فكان ( قده ) إذا عُرِّفَ لديه خطيب بأنه من أهل المصيبة والإبكاء ، يبتهج بذلك للغاية ، ويُظهر له تمام التقدير والاحترام ، وهو بهذا يريد أن يبيّن بأنَّ قيمة المنبر الحسيني تكمن في مقدار ما يحتويه من إثارة معالم مظلومية أهل البيت ( عليهم السلام ) وإلهاب الوجدان العاطفي والولائي في نفوس مَن يجتمعون تحت ظلاله الوارفة .
ففي الوقت الذي تتعالى فيه الصرخات من هنا وهناك بانعدام دور المنبر الحسيني الشريف ، وأنه لا زال يسير في ركب التخلف ، وأن خطباء المنبر لا همَّ لهم إلا استدرار الدمعة وإثارة المظلومية ، نجد أنَّ المرجع الراحل ( قده ) يؤكد على خطأ مثل هذه المفاهيم ، من خلال تعظيمه لخطباء الدمعة الحسينية والصرخة الفاطمية ، والإشادة بهم والتنويه بفضلهم .
وهو بهذا يكرس المفاهيم المستقاة من روايات أهل البيت ( عليهم السلام ) ، فإنَّ المتتبع لها يصل إلى أن الغاية المنشودة لهم ( عليهم السلام ) من وراء تأسيس المآتم الحسينية ، وتشييد المنابر الشريفة ، هي : تأجيج الحالة العاطفية لأتباعهم ، من خلال عرض مصائبهم ومظلوميتهم ، إذ أنَّ هذا كفيل بمضاعفة عواطف الولاء لهم ( ع ) من ناحية ، وبتحريك مشاعر العداء تجاه أعدائهم وقتلتهم وغاصبي حقوقهم ( عليهم أشد اللعنة والعذاب ) من ناحيةٍ أخرى .
والشاهدُ على ما ذكرناه : ” ما وردَ عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) من أنه قال للفضيل : تجلسون وتتحدثون ؟ قال : نعم ، جعلتُ فداك ، قال : إن تلك المجالس أحبها ، فأحيوا أمرنا ، رحمَ الله من أحيى أمرنا ، يا فضيل من ذكرنا أو ذُكرنا عنده ، فخرج من عينه مثل جناح الذباب ، غفر الله له ذنوبه ، ولو كانت أكثر من زبد البحر ” .
فإنه ليس يخفى على المتأمل في هذه الرواية الشريفة ، كيف أن الإمام ( عليه السلام ) قد اعتبر أن قيمة المجالس التي يجتمع فيها الشيعة ، إنما هي بذكر أهل البيت ( عليهم السلام ) الموجب لتحريك الدموع ليس إلا ، مما يعني أن الغاية المحورية التي ينشدها المعصومون ( عليهم السلام ) من وراء الدعوة إلى المآتم الحسينية الشريفة هي الدمعة أولاً وآخراً .
ولا يعني هذا التقليل من أهمية الاستفادة من المنابر الحسينية الشريفة في إيصال معارف المعصومين ( عليهم السلام ) لشيعتهم ، ضرورةَ أنَّ الاستفادة من آلية المنبر الشريف في نشر المعارف الإلهية ، هو الآخر من مصاديق إحياء أمر أهل البيت ( عليهم السلام ) ، حيث ورد عن الهروي أنه قال : سمعت الإمام الرضا ( عليه السلام ) يقول : رحم الله عبداً أحيى أمرنا ، قلتُ : وكيف يحيي أمركم ؟ قال : يتعلم علومنا ويعلمها الناس .
فالاستفادة من المنبر الحسيني في نشر معارف الأئمة ( عليهم السلام ) لا ريب في رجحانها ، لاندراجها ضمن عمومات الإحياء ، غير أنه ليس هو الهدف الأساس الذي تكمن وراءه قيمة المنبر الحسيني وخطبائه ، بل القيمة كلها كامنة في مدى إثارة المنبر الحسيني لمظلومية المعصومين ( عليهم السلام ) ونشر مصائبهم المفجعة ، وهذا هو ما كان يؤكد عليه الشيخ التبريزي ( طيب الله ثراه ) في تعامله مع خطباء الدمعة الحسينية .
3 / اللمحةُ الثالثة : بذلُ النفس في تحصيل العلم .
كانت هنالك خصوصية يتمتع بها الشيخ التبريزي ( قدس سره ) لم ألحظها عند غيره من معاصريه ، وهي خصوصية ( قوة الاستحضار ) بحيث كان ذهنه الشريف أشبه شيء بجهاز الحاسب الالكتروني ، فما كنتَ تطرح عليه فرعاً من الفروع الفقهية ، إلا وكان ينحدر كأنه السيل ، فكانَ – في أغلب الأحيان – يستعرض متون الروايات المرتبطة بذلك الفرع ، بل ويستحضر حتى أسانيد الأخبار ، إلى جانب استحضاره لسائر الكبريات الأصولية المرتبطة بصغرياتها ، وكأنكَ قد ضغطتَ – بسؤالكَ له – على زرٍ من أزرار جهاز الحاسوب ، ليوافيك بجميع المعلومات المتعلقة بسؤالك بكل تفصيل ودقة .
وقد أثارت قوةُ استحضارهِ هذه روحَ الفضول عندي ذاتَ مرة ، فسألته وقلتُ له : مولانا ،كيف يستطيع الطالب أن يجعل قوة الاستحضار لديه بهذه المثابة ؟ فأجابني قائلاً : أيها السيد ، إنَّ هذا يحتاج إلى جهد كبير .
والأمر كما أفاده ( عطر الله مثواه ) إذ أن التوفر على قوة الاستحضار ، كما يتوقف من ناحية على نضج قوة الذاكرة لدى الطالب ، كذلك يحتاج إلى بذل الجهد المضاعف في تحصيل العلمين العظيمين : الفقه والأصول ، وما يرتبط بهما من معارف رجالية وحكمية وكلامية .
وإنَّ المستوى الشامخ الذي كان عليه شيخنا التبريزي ( قده ) في قوة الاستحضار ، لمؤشر واضح على مدى الجهد الشديد الذي قد بذله ( طابت في أعلى الجنة نفسه ) في طريق تحصيل معارف المعصومين ( عليهم السلام ) حتى أصبح في طليعة فقهاء الطائفة المحقة في المرحلة المتأخرة .
وفي الختام : أجد نفسي متحيراً أمام شخصية هذا العلَم العملاق ، لذلك فإنني أستحث الخطى من أجل إنهاء هذه السطور بشكل عاجل ، وإنه ليطيب لي أن أختمها بذكر نفحة من نفحات شيخنا المقدس في أواخر أيام حياته ، حيثُ كانَ في ظل الضعف والمرض – وهو على سرير الموت – لا يترنم لسانه المبارك بشيء من الكلام ، إلا بكلمة واحدة ، وهي كلمة : ( يا زهراء ) إذ أنَّ هذا الإسم المقدس قد انتقشت حروفه على صفحة لسانه ، كما انتقشت على صفحات قلبه ، فصار لا ينتشي ولا يطرب ولا يلتذ إلا بذكر اسم السيدة الشهيدة الزهراء ( أرواحُ جميع ما خلقَ اللهُ لها الفداء ) لأنه ذاب عشقاً فيها ، وولاءً لها ، والعاشق لا يلتذ إلا بذكر معشوقه ، فكانت حياته مع الزهراء ، ومماته مع الزهراء ، وسنراه – إن شاء الله تعالى – يوم القيامة ، وهو يحمل أكبر راية كُتبَ عليها : ( يا لثأرات الزهراء ) .
وإنا لله وإنا إليه راجعون
ضياء السيد عدنان الخباز
قم المقدسة : 3 / 11 / 1427 هـ
لا توجد تعليقات.