أنّه يحكم على العمل الواقع سابقاً على طبق اجتهاد صحيح، أو على طبق فتوى معتبرة في ذلك الزمان، بالإجزاء في العبادات والمعاملات، بمعنى العقود والإيقاعات السابقة؛ لما علم من مذاق الشارع بجعل هذه الشريعة سهلة سمحة، وأنّه لم يعهد في الشريعة أن يأمر الائمّة (عليهم السلام) من كان يعمل على طبق أخبارهم المعتبرة أن يتدارك عمله السابق بمجرّد ظهور خبر أو وروده عنهم (عليهم السلام) فيما بعد، بحيث يقدّم بعد وروده على ما كان يعمل عليه، بل ورد عنهم ما يشير إلى إجزاء ذلك العمل، ففي موثّقة محمد بن مسلم عن أبي عبداللّه(عليه السلام)قال: «قلت له: ما بال أقوام يروون عن فلان وفلان عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) لا يتّهمون بالكذب، فيجيء منكم خلافه؟ قال: إنّ الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن»(۱)، فإنّ التعبير عن الحديث الآتي من قبلهم بالناسخ للحديث عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)وتنزيله الحديث منزلة القرآن في وقوع النسخ فيه يشير إلى إجزاء العمل السابق قبل ورود الحديث الناسخ، فإنّ النسخ في المقام، وإن لم يكن بمعناه المعروف بل المراد منه التقييد والتخصيص، إلاّ أنّ العمل بالكتاب قبل ورد المخصّص أو المقيّد عليه كما كان يجزي كذلك العمل بالحديث قبل ورود الحديث اللاحق، ويؤيّد ذلك الإجماعات المنقولة في المقام على الإجزاء حيث قال في العروة: «فإذا أفتى المجتهد الأوّل بجواز الذبح بغير الحديد مثلا، فذبح حيواناً كذلك، فمات مجتهده، وقلّد من يقول بحرمته، فإن باعه أو أكله حكم بصحّة البيع وإباحة الأكل، وأمّا إذا كان الحيوان المذبوح موجوداً فلا يجوز بيعه ولا أكله»، وقال قبل ذلك: «وكذا لو أوقع عقداً أو إيقاعاً بتقليد مجتهد يحكم بصحّته، فإن مات وقلّد من يقول ببطلانه، يجوز له البناء على الصحّة. نعم يجب عليه العمل بمقتضى فتوى المجتهد الثاني فيما يأتي»(۲).
ولا يخفى أنّ ما ذكره من الفرق بين الذبح بغير الحديد وبين العقد السابق لا يصحّ، إلاّ بأن يقال المتيقّن من التسالم على الإجزاء، موارد العبادات السابقة والعقود والإيقاعات، ويبقى غيرها تحت القاعدة المشار إليها آنفاً في الأصل الأولي على القول بالطريقية في الامارات واعتبار الأُصول من عدم الإجزاء.
ثمّ إنّه يقع الكلام في أنّه لو قلنا بإجزاء الأعمال السابقة على طبق الفتوى السابقة، فيما إذا انكشف خلافها بالفتوى اللاّحقة، فهل تكون تلك الأعمال مجزية بالإضافة إلى غير العامل أيضاً ممّن يكون الطريق المعتبر عنده على خلاف تلك الأعمال، مثلا إذا تيمّم الإمام لصلاته في مورد، يرى الغير أنّه يتعيّن في ذلك المورد الوضوء جبيرة، فهل يجوز ـ لمن يكون الحكم عنده كذلك ـ الائتمام بصلاة هذا الإمام الذي يصلّي بالتيمّم، بدعوى أنّه إذا كانت صلاة الإمام مجزية بحيث لا يجب عليه تداركها بالإعادة والقضاء بعد كشف الخلاف عنده بتبدّل فتواه أو رجوعه إلى المجتهد الآخر، تكون صلاته مع التيمّم المفروض كالصلاة مع الخلل في الموارد التي تدخل في المستثنى منه من حديث «لا تعاد»، وكما أنّه يجوز الاقتداء فيها مع علم المأموم بخلل صلاة الإمام بما لا يضرّ الإخلال به في صحّتها في حقّه، فكذلك الحال في الفرض، أو أنّه لا يجوز للغير ممن يقوم الطريق المعتبر عنده على بطلان عمله واقعاً ترتّب أثر الصحيح على تلك الأعمال؟
الصحيح هو الثاني، وذلك لأنّ الحكم بالإجزاء في الأعمال السابقة بالإضافة إلى العامل، ليس بمعنى صحّتها واقعاً، بل معنى الإجزاء إبقاء فتواه السابقة أو فتوى المجتهد السابق على الاعتبار بالإضافة إلى تلك الأعمال في حقّ العامل؛ ولذا لو كان كشف الخلاف في الفتوى السابقة مع الواقع كشفاً وجدانياً لم تكن مجزية، ولزم تدارك الواقع الفائت، فلا يقاس الإجزاء فيها بموارد الخلل في الصلاة، ممّا يدخل في المستثنى منه من الحديث، فإنّ الصحّة في تلك الموارد واقعية؛ ولذا لا تجب إعادة الصلاة ولا قضائها بالكشف الوجداني للخلل.
وبالجملة غاية ما يستفاد ممّا تقدّم ـ من أنّ لزوم التدارك في موارد تبدّل الفتوى أو الرجوع الى المجتهد الآخر ينافي كون الشريعة سهلة وسمحة وقيام السيرة المتشرعة الجارية على عدم التدارك فيما إذا وقعت الأعمال السابقة عن تقليد أو اجتهاد صحيح في العبادات والمعاملات من العقود والإيقاعات ـ هو بقاء الفتوى السابقة أو الاجتهاد السابق على الاعتبار بالاضافة إلى العامل فحسب، وكذا فيما أشرنا إليه من الرواية، فتدبّر.
قد يقال: إنّه يستثنى ممّا ذكر من عدم ترتيب أثر الصحيح لمن يرى بطلان ذلك العمل بحسب اجتهاده أو تقليده موردان:
أحدهما: النكاح، فإنّه إذا عقد على امرأة بعقد صحيح عندهما بحسب تقليدهما، فلا يجوز للغير الذي يرى بطلانه اجتهاداً أو تقليداً تزويجها بعد ذلك بلا طلاق صحيح، بدعوى أنّ المرأة من الأوّل خليّة؛ لبطلان العقد على رأيه.
الثاني: الطلاق فإنّه إذا طلّق زوجته بطلاق يرى صحّته، كما إذا أنشأه ببعض الصيغ مما أفتى بعض بصحّة إنشائه بها، ويرى الغير بطلان ذلك الطلاق، فيجوز له التزويج بتلك المرأة بعد انقضاء عدّتها.
والدليل على ترتيب الأثر في الموردين ـ مضافاً إلى السيرة المستمرّة ـ ما يستفاد ممّا ورد في أنّ «لكلّ قوم نكاح» وما ورد في قاعدة الإلزام.
ولكن لا يخفى ما فيهما، إذ دعوى السيرة المستمرّة في موارد الحكم الظاهري لم تثبت، وما ورد في أنّ لكلّ قوم نكاح أو في قاعدة الإلزام لا يستفاد منهما إجزاء النكاح أو الطلاق الواقع على طبق الحجّة المعتبرة عند العامل، بالإضافة إلى من تكون الحجّة المعتبرة عنده على خلافها، وكذلك الحال في الميراث. نعم إذا كان النكاح والطلاق أو الميراث عند قوم مخالفاً لما عندنا، فهو مجرى السيرة وقاعدة الإلزام لا ما إذا كان عند مجتهد مخالفاً لما عند مجتهد آخر.
(۱) الوسائل: ج ۱۸، باب ۹ من أبواب صفات القاضي، الحديث ۴٫
(۲) العروة الوثقى: ج ۱، مسألة ۵۳، من كتاب الاجتهاد والتقليد.