الملاك في اختيارية افعال العباد

28

إمكان صدور الفعل عن الفاعل بالاختيار لا يحتاج إلى غير قدرته عليه، نعم العاقل لا يصرف قدرته فيمالا يعنيه و ما ليس له فيه صلاح، بل يصرفها على أحد طرفي الشيء لغرض، من غير أن يكون ترتّب الغرض على ذلك الطرف موجباً لسلب قدرته عن الطرف الآخر، وبتعبير آخر: يكون ترتّب الغرض على أحد طرفي الشيء مرجّحاً لذلك الطرف على الآخر؛ ولذا يسمّى إعمال القدرة وصرفها في أحد طرفي الشيء اختياراً؛ لأنّ الإنسان يأخذ بما فيه الخير، وقد اعترف الماتن(قدس سره)في بحث التجرّي(۱۵) ببعض ما ذكرناه ـ من كون اختيارية الفعل بالتمكّن من عدمه ـ حيث ذكر أنّ بعض مبادئ اختيار الفعل اختيارية، لتمكّنه من عدمه بالتأمّل فيما يترتّب عليه، فراجع.

إن قلت: أفلا يكون مقتضى التوحيد والاعتراف بوحدانية الخالق، هو الالتزام بأنّ ما يحصل في الكون ـ ومنها أفعال العباد ـ مخلوقة للّه (سبحانه)، لئلاّ يكون مؤثّراً في الوجود وخالقاً للكون إلاّ هو وإنّما يصحّ العقاب حينئذ على فعل العبد، فلأجل أنّ الفعل في الحقيقة وإن كان بإرادة اللّه، إلاّ أنّ اللّه تعالى يريد فعل العبد، إذا تعلّقت إرادة العبد به، فيكون المؤثّر في ذلك إرادة اللّه، والعبد أيضاً أراد تحقيقه وإيجاده، ولكن إرادته لا تؤثّر في الواقع شيئاً، ويعبّر عن إرادة العبد كذلك بالكسب، فيكون العقاب على كسب العبد، وإن شئت فلاحظ من أراد رفع حجر عن مكان، باعتقاد أنّه متمكّن من رفعه، ولكن عند تصدّيه للرفع يظهر عدم تمكّنه منه، فيضع شخص آخر أقوى منه يده تحت ذلك الحجر ويرفعه، فارتفاع الحجر عن مكانه يكون برفع هذا الشخص الثاني خاصّة، ويستند الرفع إليه دون الأوّل، إلاّ أنّ سبب رفع الثاني للحجر هو تعلّق إرادة الأوّل برفعه، ولأجله لا مانع من إسناد الرفع إلى المريد خاصّة.

قلت: إنّ ما ذكر لا في تصحيح العقاب يجدي ولا في التحفّظ على وحدة الخالق والمؤثّر في الكون ومنه أفعال العباد.

أمّا الأوّل؛ فلأنّه لا يصحّ عند العقل أن يذمّ رافع الحجر حقيقة، مريدَ الرفع خاصّة ويوبّخه على الرفع؛ لأنّه لم يرفعه، بل أراد رفعه فحسب، فالتوبيخ والذمّ يرد على رافع الحجر حقيقة الذي هو الشخص الثاني. نعم يصحّ توبيخ الأوّل على إرادة الرفع لا على نفس الرفع، وإذا فرض أنّ إرادته أيضاً فعل مخلوق يكون المؤثّر فيه إرادة اللّه (سبحانه) فلا يصحّ عقابه ولا توبيخه على الإرادة المخلوقة، وإن قيل بأنّ إرادة المريد ناشئة عن مباديها، ومباديها ناشئة عن خبث السريرة والشقاوة الذاتيّة كما تقدّم في كلام الماتن (قدس سره)ثبت أيضاً أنّه لا مصحّح للعقوبة على ارادته ولا على فعله.

وأمّا الثاني فيظهر جوابه عن مقالة الفلاسفة في قاعدة «أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد» أنّ ما ذكره الفلاسفة من قاعدة «أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد» لا يجري في الفاعل بالاختيار، فإنّه بعد لحاظ الشيء والتصديق بفائدته والميل إليه والجزم بعدم المانع، يبقى الفاعل المختار قادراً على اختيار كلّ من الفعل والترك، والمبادي لا تجعل الفعل من قبيل واجب الوجود، بل إنّها مرجّحة لاختياره طرف الفعل، حيث إنّ الفاعل الحكيم لا يختار الفعل إلاّ مع الصلاح في شخصه أو المزية في الجامع بينه وبين فعل آخر، كما إذا لم تكن مزيّة في خصوص أحد الفعلين بالإضافة إلى الآخر، فإنّ قيام المزيّة في الجامع كاف في كون اختيار الفعل بالحكمة، ويدلّك على ذلك أنّ الهارب يختار أحد الطريقين مع عدم المزية لأحدهما بالإضافة إلى الآخر.

وحكي عن الفخر الرازي(۱۶) استدلاله على ذلك بأنّه لا مرجّح لحركة الشمس من المشرق إلى المغرب، وقد طعن عليه صدرالمتألّهين في شرحه على أُصول الكافي(۱۷)، ولم يأت في الردّ عليه إلاّ بالطعن والشتم.

ولكن لا يخفى ما في المحكي، حيث إنّ حركة الأرض حول نفسها، أو حركتها حول الشمس، ليست من الأفعال الاختيارية لها، فلابدّ من خصوصية خارجية تقتضي تعين تلك الحركة. نعم خلق الشمس أو الأرض بتلك الخصوصية من فعل اللّه (سبحانه)، ولا سبيل لنا إلى الجزم بأنّ الخلق بتلك الخصوصية كان لمرجّح في الجامع بين الخصوصيتين.

ونظير ما ذكره الفلاسفة بالإضافة إلى الأفعال ـ من دعوى اقتضاء التوحيد ونفي الشرك في الخلق ـ الالتزام بأنّ أفعال العباد مخلوقة للّه (سبحانه) تمسّكاً ببعض الآيات:

مثل قوله (سبحانه): (وَاللّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُوْنَ)(۱۸).

وقوله (سبحانه): (وَما تَشاءُونَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللّهُ)(۱۹).

وقوله (سبحانه): (وَلاتَقُولَنَّ لِشَيْء إِنِّي فَاعِلٌ ذلِكَ غَدَاً إِلاّ أَنْ يَشَاءَ اللّهُ)(۲۰). وقوله (سبحانه): (وَما كانَ لِنَفْس أَنْ تُؤْمِنَ إلاّ بِإِذْنِ اللّهِ)(۲۱).

وقوله (سبحانه): (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمواتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذَ وَلَدَاً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيْكٌ فِي المُلْكِ)(۲۲) أي الخلق. إلى غير ذلك.

والجواب عنها: أنّ الآيات المذكورة ونحوها إذا لوحظت في مقابل مثل قوله (سبحانه): (إِنَّ اللّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّة وَإنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيْماً)(۲۳).

وقوله (سبحانه): (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدَاً)(۲۴).

(سبحانه): (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيْلَ إِمّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوْرَاً)(۲۵).

ومثل قوله (سبحانه) حكاية عن أهل النار: (قالُوا بَلى قَدْ جائَنَا نَذِيْرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللّهُ مِنْ شَيْء إِنْ أَنْتُمْ إلاّ فِي ضَلال كَبِيْر وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيْرِ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقَاً لأَصْحابِ السَّعِيْرِ)(۲۶) ونحوها، يتّضح كمال الوضوح أنّ إسناد الأفعال إلى اللّه (سبحانه) في مثل الحسنات والأفعال الحسنة، إنّما هو باعتبار أنّ القدرة على العمل والمعدات التي يتوقّف عليها العمل كلّها من اللّه (سبحانه)، ولذا لن تجد مورداً في كتاب اللّه (سبحانه) أو غيره أُسند فيه العمل القبيح الصادر عن العبد إليه (تعالى)؛ ولذا ذكرنا أنّ التوحيد لا يقتضي إسناد الظلم إلى اللّه (تعالى) بأن تكون إرادته المشار إليها في قوله تعالى: (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئَاً)(۲۷) متعلّقة بأفعال العباد الاختيارية التي يتعلق بها التشريع، بل تلك الإرادة تعلّقت بكونهم مختارين، حيث إنّ الدنيا دار الفتنة والامتحان. وأمّا قولنا: أراد اللّه أن نصلّي ونصوم، فمعناه أنّه سبحانه طلب منّا العمل وأمرنا أن نفعل.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّه إذا لوحظ صحّة تكليف العباد وجواز مؤاخذتهم على ما ارتكبوا من المعاصي، ولوحظت الآيات الواردة في أمر العاصين بالتوبة والاستغفار وأمر المؤمنين بالاستقامة في الدين ولوحظ ما ورد من الآيات من كون العاصين ظالمي أنفسهم، تجد أنّ إسناد بعض الأفعال إلى اللّه (سبحانه) ليس بمعنى نفي اختيار العبد فيها، بل بمعنى أنّ القدرة عليها بمشيّة اللّه وإرادته، وربما يلقي (سبحانه) حبّ العمل والشوق إليه في أنفسهم، فيكون ذلك تأييداً للعبد على الاستقامة ونيل الثواب، بعد علمه (سبحانه) أنّ العبد يهمّ بالطاعة والاجتناب عن السيّئات ما أمكن.

ويظهر من ذلك بطلان توهّم علّيّة سوء السريرة، أو حسنها لحصول المبادي التي من قبيل العلّة التامّة لحصول الإرادة ـ يعني الشوق المؤكّد المحرّك للعضلات ـ، وكذا بطلان توهّم أنّ اختيارية فعل العبد ينافي مسلك التوحيد الأفعالي، والالتزام بالملك المطلق للّه (سبحانه).

——————————————————-

(۱۵) كفاية الأُصول: ص ۲۶۰٫

(۱۶) المباحث المشرقية.

(۱۷) شرح أُصول الكافي لصدرالمتألهين.

(۱۸) سورة الصافات: الآية ۹۶٫

(۱۹) سورة الإنسان: الآية ۳۰٫

(۲۰) سورة الكهف: الآية ۲۳٫

(۲۱) سورة يونس: الآية ۱۰۰٫

(۲۲) سورة الفرقان: الآية ۲٫

(۲۳) سورة النساء: الآية ۴۰٫

(۲۴) سورة الكهف: الآية ۴۹٫

(۲۵) سورة الإنسان: الآية ۳٫