يمكن تلخيص :
الأوّل: إن المنشأ بالأمر حتّى في الخطابات الإلهية هو الطلب الإنشائي، والطلب الإنشائي يكون منبعثاً من الطلب الحقيقي، والطلب الحقيقي من اللّه (سبحانه) هو علمه بصلاح الفعل الصادر عن المكلف دون الإرادة التكوينية منه (تعالى) التي هي العلم بالنظام الكامل التامّ. نعم ربّما توافقت الإرادة التكوينية والطلب الحقيقي المعبّر عنه بالإرادة التشريعية، فلا محيص عن اختيار الطاعة والإيمان، وربّما تخالفتا فلا محيص عن اختيار الكفر والعصيان.
الثاني: أنّ لزوم الطاعة والإيمان عند توافق الإرادتين واختيار الكفر والإيمان عند تخالفهما لا يوجب خروج الفعل عن اختيار العبد وصدوره عنه بإرادته، وأنّ المؤثّر في حصول الفعل هي إرادة العبد التي فسّرها في كلماته ـ تبعاً للقوم ـ بالشوق المؤكّد المحرّك للعضلات.
الثالث: أنّ إرادة العبد المتعلّقة بالطاعة والإيمان أو بالكفر والعصيان، وإن افتقرت في تحقّقها إلى المؤثّر لعدم كونها ضرورية وواجبة حتّى تستغني عن العلّة وإنّ مبادئها عند اجتماعها هي المؤثّرة في تحقّق الارادة، إلاّ أنّ حصول تلك المبادئ غير مستند إلى إرادة اللّه (سبحانه)، بل تستند إلى ما هو لازم الذات من السعادة والشقاوة، وشيء منهما لا يعلّل، حيث إنّ اللازم للذات لا يحتاج إلى علّة، بل يوجد بتبع وجود الشيء لا محالة.
وأساس هذه الأُمور الثلاثة، هو الالتزام بأمرين:
أحدهما: إنّ إرادة اللّه (سبحانه) من صفات الذات، وعليه تكون إرادته تعالى عين علمه، سواء كانت الإرادة تكوينية أو تشريعية، وبذلك صرّح في كلامه (قدس سره) في «وهمٌ ودفعٌ» فذكر أنّ المنشأ في الخطابات الإلهية ليس هو العلم، إذ العلم بالصلاح يتحد مع الارادة خارجاً، لا مفهوماً. وقد عرفت أنّ المنشأ ليس إلاّ المفهوم لا الطلب الخارجي، ولا غرو أصلاً في اتّحاد الإرادة والعلم عيناً وخارجاً، بل لا محيص عنه في جميع صفاته (تعالى) لرجوع الصفات إلى ذاته المقدّسة، قال أميرالمؤمنين (عليه السلام): «وكمال توحيده الاخلاص له، وكمال الاخلاص له نفي الصفات عنه»(4).
ثانيهما: أنّ الممكن لا يوجد إلاّ مع تماميّة علّته على ما هو المعروف بينهم من «أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد»(5)، بلا فرق بين الأفعال وغيرها، إرادية كانت أو غير إرادية.
أقول: أمّا الأمر الأوّل وهو ما ذكره (قدس سره) من أنّ إرادة اللّه (سبحانه) من صفات الذات وعين العلم بالنظام على النحو التامّ الكامل، وإرادته التشريعية عين العلم بمصلحة الفعل، فقد أورد عليه المحقّق الاصفهاني (قدس سره) في تعليقته بأنّ صفات الذات تختلف كلّ منها مع الصفات الأُخرى مفهوماً، وإنّما يكون مطابقها ـ بالفتح ـ واحداً خارجاً؛ لأنّه تعالى بذاته صرف القدرة وصرف العلم وصرف الإرادة، ولكن كلّ منها غير الآخر مفهوماً، وعلى ذلك فلا يصحّ تحديد إرادته (سبحانه) بالعلم بالنظام الكامل التامّ والعلم بالصلاح؛ ولذا قال أكابر القوم(6): إنّ الإرادة في ذات الحق (جلّ وعلا) هو الابتهاج والرضا وما يقاربهما في المعنى، لا العلم بالنظام أو الصلاح في الفعل. نعم الإرادة فينا هي الشوق المؤكّد.
والسرّ في الاختلاف وتحديد الإرادة منّا بالشوق المؤكّد وفي ذات الحق (جلّ وعلا) بصرف الابتهاج الذاتي والرضا هو إنّا لمكان إمكاننا وقصور فاعليّتنا حيث نحتاج ـ في ظهور هذه الفاعلية إلى الفعلية ـ إلى مقدمات زائدة على ذاتنا من تصور الفعل والتصديق بالفائدة، فبالشوق الأكيد تصير القوة الفاعلية فعليّة ومحرّكة للعضلات، بخلاف ذات الحقّ (جلّ وعلا)، فإنّه خال عن جهات القوّة والنقص وعدم الفعلية، فإنّه فاعل بذاته المريدة، حيث إنّ ذاته بذاته مبتهجة أتمّ الابتهاج وينبعث عن الابتهاج الذاتي الإرادة الفعلية، كما وردت الأخبار بذلك عن الأئمّة الأطهار (صلوات اللّه وسلامه عليهم)، إنتهى ما أردنا إيراده من كلامه (قدس سره)(7).
ولكن لا يخفى أنّ الشوق المؤكّد منّا لا يطلق عليه الإرادة، فإنّ الإرادة تطلق على أحد أمرين:
أحدهما: القصد إلى الفعل والعزم والبناء على العمل.
ثانيهما: بمعنى الاختيار، وهو صَرف القدرة في أحد طرفي الشيء من الفعل أو إبقائه على عدمه، والشوق المؤكّد غير هذين الأمرين، والشاهد على عدم كون الشوق المؤكّد علّة لصدور الفعل منّا فضلا عن كونه علّة تامّة هو صدور بعض الأفعال عن الإنسان باختياره بلا اشتياق منه إلى الفعل المفروض، فضلا عن كونه مؤكّداً، كما إذا أصابت عضو الإنسان آفة، يتوقّف دفع سرايتها إلى سائر بدنه والتحفّظ على حياته على قطع ذلك العضو، فإنّ تصدّيه لقطعه بالمباشرة أو بغيرها يكون بلا اشتياق منه إلى القطع، بل ربّما لا يحبّ الحياة بدون ذلك العضو المقطوع، ولكن يقطعه امتثالا لما هو الواجب عليه شرعاً تخلّصاً من عذاب مخالفة التكليف، وأيضاً الشوق المؤكّد قد يتعلّق بفعل لا يتمكّن منه ويعلم بعدم الوصول إليه، مع أنّ العاقل لا يريد غير المقدور له، وكلّ من الأمرين شاهد قطعي على أنّ الشوق المؤكّد غير الإرادة التي لا تتعلّق بغير المقدور مع الالتفات إلى أنّه غير مقدور، نعم قد يكون الاشتياق ـ مؤكّداً أو غير مؤكّد ـ داعياً له إلى إرادة المشتاق إليه أو إرادة الإتيان بأعمال يترتّب عليها ذلك المشتاق إليه جزماً أو احتمالا، وهذا أمر نتعرّض له إن شاء اللّه تعالى.
هذا بالإضافة إلينا، وأمّا بالإضافة إلى ذات الحق (جلّ وعلا) فلا دليل على أنّ إرادة اللّه (سبحانه) من صفات الذات حتّى تفسّر بالعلم أو بالابتهاج الذاتي والرضا، بل قام الدليل على أنّها من صفات الأفعال، كما أنّ الرضا والسخط أيضاً من صفات الأفعال، ولا يرتبطان بصفات الذات، كالقدرة والعلم والحياة.
فقد ورد في صحيحة عاصم بن حميد عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال قلت: لم يزل اللّه مريداً، قال: لا يكون المريد إلاّ المراد معه، لم يزل اللّه عالماً قادراً ثمّ أراد(8).
وفي صحيحة صفوان بن يحيى قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام): أخبرني عن الإرادة من اللّه ومن الخلق؟ فقال: الإرادة من الخلق الضمير وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل، وأمّا من اللّه تعالى فإرادته إحداثه لا غير ذلك؛ لأنّه لا يروّي ولا يهمّ ولا يتفكّر، وهذه الصفات منفية عنه وهي صفات الخلق، فإرادة اللّه الفعل لا غير، يقول له كن فيكون، بلا لفظ ولا نطق بلسان، ولا همّة ولا تفكّر، ولا كيف لذلك، كما أنّه لا كيف له(9)، وظاهر نفي الكيف نفي الابتهاج.
والوجدان أكبر شاهد على أنّ أفعال العباد من الطاعة والعصيان والإيمان والكفر، كلّها خارجة عن إرادة اللّه ومشيتّه، بل إرادته ومشيّته (جلّت عظمته) قد تعلّقت بتشريع تلك الأفعال على العباد، وجعل الدنيا دار الابتلاء والامتحان لهم؛ ليتميّز الخبيث من الطيّب، ومن يستمع قول الحقّ ويتّبعه عمّن يعرض عنه وينسى ربَّه ويومَ الحساب، ويشتغل بالدنيا وغرورها. نعم بما أنّ أفعال العباد تصدر عنهم بحول اللّه وقوّته، يعني بالقدرة التي أعطاها ربّ العباد إيّاهم، وأرشدهم إلى ما فيه الرشد والهداية وسعادة دنياهم وعقباهم، يصحّ أن يسند اللّه سبحانه أفعال الخير إلى نفسه، كما في قوله سبحانه: (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللّهَ رَمَى) الآية(10)، وقوله سبحانه: (وَما تَشاءُوْنَ إِلاّ أنْ يَشاءَ اللّهُ)(11)، حيث إنّ كلّ ما يصدر عنّا هو من قبيل تحريك العضلات، ولكن معطي قوة الحركة ونفس العضلات هو اللّه (سبحانه)، وإذا أمسك قوّتها فلا نتمكّن من الفعل، فيكون صدور الفعل عنّا باختيارنا وإرادتنا، على تقدير إعطاء اللّه وعدم إنهاء ما بذله، فيصحّ أن يقول اللّه (سبحانه): لا يصدر عنك فعل إلاّ بمشيّتي، وإذا لاحظت مثل هذه الأُمور كما إذا أوجد شخص أمراً تكون تمام آلاته ومعدّاته بيد الغير وكانت بإعطائه، تجد من نفسك أنّه يصحّ للغير أن يقول: أنا أوجدت الأمر وفعلك ذلك كان بمشيّتي، فكذلك يصحّ أن يقال إنّ أفعال العباد تكون بمشيّة اللّه عزّ وجل وربما يضاف إلى صحّة الإسناد إلى اللّه عزّ وجلّ ملاحظة لطفه وتأييده وعنايته سبحانه إلى العبد
———————————————————————————————
(4) نهج البلاغة: الخطبة 1 / 39.
(5) الأسفار: 1 / 221، الفصل 15.
(6) القبسات للسيد ميرداماد: ص 322.
(7) نهاية الدراية: 1 / 278.
(8) الكافي: 1 / 109، باب الإرادة أنّها من صفات الفعل، الحديث 1.
(9) الكافي: 1 / 109، باب الإرادة أنّها من صفات الفعل، الحديث 3.
(10) سورة الأنفال: الآية 17.
(11) سورة الإنسان: الآية 30..