إنّ ما بنى عليه البعض تبعاً لأهل المعقول من «أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد»(12) وأنّ فعل العبد ما لم يكن بالغاً حدّ الوجوب لم يتحقّق خارجاً، بدعوى أنّ هذا لازم إمكان الشيء بلا فرق بين الأفعال وغيرها، ولذلك التزموا بأنّ الإرادة بالمعنى الذي فسّروها به من الشوق المؤكّد علّة للفعل، وذلك الشوق أيضاً يوجد بمبادئه المترتّبة على حسن الذات وسعادتها أو خبثها وشقاوتها، والسعادة والشقاوة من لوازم الذات لا تحتاج إلى علّة؛ لأنّها توجد بالعلّة الموجدة لنفس الذات ـ فممّا لا يمكن المساعدة عليه، إذ لو كان الأمر كما ذكره، فكون أفعال العباد اختيارية لهم، مجرد تسمية لا واقع لها، ولا يكون في البين من حقيقة الاختيار شيء.
كما أنّ ما تقدّم منه (قدس سره)، من تعلّق إرادة اللّه (ّعزّ وجل) التكوينية بالأفعال الصادرة عن العباد باختيارهم، إن كان المراد منه أنّه على تقدير صدور الفعل عن العباد بإرادتهم، فذلك الفعل متعلق إرادة اللّه (عزّ وجلّ)، فهذا من قبيل إرادة ما هو الحاصل. وإن كان المراد أنّه لا محيص عن صدور الفعل المفروض، فيكون مقتضى إرادة اللّه حصول مبادئ الإرادة للعبد، وهو يقتضي لابدّية صدور الفعل، فهذا أيضاً يساوي مسلك الجبر؛ إذ مع حصول مبادئ الإرادة تكون إرادة العبد واجبة الوجود والمفروض أنّ إرادة العبد علّة تامّة لصدور الفعل عنه، فأين الاختيار، وكيف يصحّ التكليف، وكيف يصحّ عقابه على مخالفة التكليف؟ مع أنّ العبد البائس المسكين لا يتمكّن من ترك المخالفة مع حصول مبادئ الإرادة بتبع شقاوة ذاته، أو بإرادة اللّه (ّعزّ وجل)، ومعه كيف يصحّ التوبيخ بمثل قوله سبحانه (قُلْ هُوَ الَّذِي أنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيْلا مّا تَشْكُرُوْنَ)(13).
مع أنّ للعبد المسكين أن يجيب بأنّي لا أتمكّن من الشكر لك، فأنت الذي أوجدت مبادئ إرادة الكفر والطغيان في نفسي، أو إنّ لي ذاتاً لازمها الشقاوة المستتبعة لمبادئ الكفر والنفاق والطغيان، ولا حيلة لي بغيرها، فكيف يصح عقابه؟ وفي الصحيح عن يونس بن عبدالرحمن، عن عدة، عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال له رجل: جعلت فداك أجَبَرَ اللّه العباد على المعاصي؟ فقال: اللّه أعدل من أن يجبرهم على المعاصي، ثمّ يعذبهم عليها، فقال له: جعلت فداك، ففوّض اللّه إلى العباد؟ فقال: لو فوّض إليهم لم يحصرهم بالأمر والنهي، فقال له: جعلت فداك، فبينهما منزلة؟ قال فقال: نعم، أوسع ما بين السماء والأرض(14).
————————————————————————————–
12) الأسفار: 1 / 221 ، الفصل 15.
(13) سورة الملك: الآية 23.
(14) الأُصول من الكافي: 1 / 159 باب الجبر والقدر، الحديث 11